ما بين أخدود الأمس ، وأخدود اليوم يتولى الله هلاك الطغاة ..

هكذا يعيد التاريخ نفسه ، فتتكرر الصورة ، ويعاد شريط تلك الذكريات الألمية لكل مرحلة من مراحل الصراع بين الخيرين ، والأشرار .

ولعل سورة البروج واحدة من سور القرآن الكريم التي أورد الله فيها قصة من أبشع القصص ، وأقبحها ، وأشنعها ، وأفظعها في تاريخ الصراع بين الحق ، والباطل .
تلك القصة سطر أحداثها  ثلة مؤمنة ، قوية ، صادقة ، صابرة ، ثابتة ، نهضت في وجه الطاغية آنذاك ، ووقفت شامخة ، متحدية كل تهديده ، غير عابهة بما يتوعدها به من العذاب ، والنكال.

وفي المقابل تروي أحداث تلك القصة ....صورة  ذلك الوحش ، المجرم ، المتجرد من كل قيم الإنسانية، وقد فقد صوابه ، وأخذ روح الانتقام بكل ذرة من ذرات جسده...
فأوحى له شيطانه أن يحفر الأخاديد الضخمة ، فيضرم فيها النار العظيمة ثم يرمي فيها كل من يثبت على مبدأه (وهو حي)  !!

قال سبحان وتعالى:
( قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) .

هكذا تبرز سورة البروج حقيقية المؤمنين وهم يتحدون جبروت الطاغية ، المجرم ، ويستعلون بإيمانهم على فظاعة المشهد الآخير ، وينتصرون للمبادئ والقيم ، ويقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل إحقاق الحق .

ولك أن تتأمل تلك الصورة !!
يُؤتى  بالرجل ، والمرأة  ،  والطفل...
يأتون بهم أحياءً فيقفونهم على حافة الأخاديد .... فيخيرونهم بين الرجوع عن قناعاتهم ، أو أن يُرموا في النار ( ولا وقت هناك للتفكير )  .

صورة مزعجة ، ومنظر رهيب ، وامتحان شاق ، وفتنة عظيمة ، وبلاء وأي بلاء !!!
ومع ذلك ، وفوق كل ذلك ، ورغم كل ذلك ... 
انتصر  الإيمان ، وثبت  الصادقون ، واستعذبوا
الموت بتلك الطريقة الشنيعة التي تعجز الكلمات عن التعبير عنها ( يُوتى بالرجل وأسرته ، فيرموا أطفاله  في النار الضخمة  الواحد تلو الآخر أمام عينيه ، وهم يخيروه بين الرجوع عن إيمانه أو أن يواصلوا حرق أسرته كلها ) ومع ذلك يثبت على الحق !!
فيا لعظمة الرجال ، ويا لقيمة الإيمان !!!

آثروا الصبر ، وآثروا الثبات ، وآثروا أن تكون نهايتهم بهذه الصورة التي تفوق الخيال ....
وذلك حتى تظل قصتهم حية  تُروى على مر العصور ، والأزمان ، وتصبح نهايتهم شاهدة على أهمية ثبات المؤمنين على الحق ، وتبقى خاتمتهم  مصدر إلهام للوقوف في وجه الباطل .

وأما أولئك الطغاة المجرمون ، منزوعو الضمائر ، المعتدون على الضعفاء ، والبسطاء...فالله وحده هو من يتولى الانتقام منهم ، وهو وحده من يحدد نهايتهم .
وفي هذا الموقف يقسم سبحانه وتعالى بالسماء ذات البروج ، ويقسم باليوم الموعود ، ويقسم بالشاهد والمشهود ....يقسم أنهم ملعونون ، وأن نهايتهم  إلى جهنم وبئس المصير.

وهكذا تظل هذه السورة نضرة حروفها، تفيء إليها أرواح أولئك الذين عافت أنفسهم حياة الذل ، والمهانة ، وآثروا أن يموتوا بأبشع الطرق، وأفظع الوسائل ، وأن يجودوا بأرواحهم رفضاً للعبودية ، وتوقاً للحرية .

ولبشاعة هذه الحادثة ، وعظم جرمها سطرها ربنا
 بآيات من القرآن الكريم تُتلى ليلاً ونهاراً ، لتكون مصدر إلهام لكل عشاق الحرية ، وطالبي الحياة الكريمة ، ورافضي العبودية.

ذلك أنه سبحانه وتعالى يعلم أنَّ هناك وحوشاً بشرية ستظهر عبر الأزمان ، وربما يرتكبون إجراماً لا يقل فظاعة عن إجرام أصحاب الاخدود ...
فكانت هذه السورة بمثابة المأوى لكل حر يأبى الضيم ، ويرفض التبعية ، ويتطلع إلى أفياء الحرية .

ولهذا تكررت صور الأخاديد منذ فجر الاسلام وحتى اللحظة ، وكلها تحاكي إجرام أصحاب الأخدود .

فها هي روح بلال ،  وسمية،  وعمار،  وكل الذين احترقوا من بعد...
 ففي حضن هذا اللحظة ....تاريخ أمم من "الذين آمنوا وعملوا الصالحات"

وها هم طغاة اليوم يتفننون في حفر الأخاديد بوسائل أشد فتكاً ، وأنكأ إيلاماً...
وما نراه في غزة خير شاهد على ذلك .
فلقد أعاد ( أهل غزة ) أحداث سورة البروج حية ...وكأنها تحدث الساعة أمام أعيننا .

فبالأمس ( الملك الحميري ذو نواس ) أضرم النار ، وأحضر المؤمنين وقال لهم : إختاروا أن تكونوا عبيداً عندي ، أو أن ارميكم في النار .

واليوم (النتن ياهو ) يخير أهل غزة بين العبودية لتل أبيب ، أو الموت بالقنابل المحرقة .
فالمشهد هو المشهد ، والصورة هي نفس الصورة وإن اختلفت الوسائل ، والصمود هو الصمود ، والثبات هو نفس الثبات ، والرضا بالخاتمة الشنيعة هو نفس الرضا .

وكما لُعن ذو نواس بالأمس ، سيُلعن النت ياهو اليوم ، وكما انتصر المؤمنون بالأمس سينتصر أهل غزة اليوم .

ذلك ما أكدته خاتمة السورة التي يقول الله فيها :( والله من ورائهم محيط) محيط بهؤلاء المجرمين ، هم في قبضته ،  ونهايتهم مرهونة بكلمة ( كن فيكون ) .
وفي ذلك تسلية للمؤمنين وهم يستمعون إلى هذا النداء المؤنس ...
فتبرأ أرواحهم  من جراحها، ويقترب منهم  صوت الحق  ( إن بطش ربك لشديد) ، فيرون  في الأفق موجة... يغيب معها  الحطب، وينطفئ فيها لهب النار .. فتصبح قاب قوسين أو أدنى من صوت الماء في الجنة.

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) 
فيا لصوت الأنهار في ظمأ الغربة، كيف ترتدي الكلمات هنا..... رعشة الجمال في وسط الحريق.

يا لله..
إنَّه ثمة عرس سماوي،  يتوهج في رماد الشهداء، فتضحك أطيار الجنة ، وينجو الشهداء رغم الأخاديد ورغم القبور.