حين ينطق العدو بأصواتنا
ليست الحروب اليوم كما كانت، جبهات وحديدًا وبارودًا، بل باتت حربًا من طرازٍ آخر، ناعمة في ظاهرها، شرسة في جوهرها، لم يعد العدو بحاجة إلى اجتياحٍ صاخب، ولا إلى مدافع تدوي، إنما يكفيه أن يغرس فكرةً، أن يُشكل رأيًا، أن يندس في خطابٍ يُقال بلهجة أبناء الوطن.
في زمننا الراهن، الحرب لم تعد إعلانًا واضحًا للعداء، بل مشروعًا طويل النفس، يخاض بأدوات ناعمة، تتخفى خلف الشعارات، وتتغذى على الثغرات النفسية والاجتماعية، إعلام موجه، خطاب مشبوه، افتعال أزمات، تحريك نزاعات داخلية، تشويه للرموز، وتفخيخ الوعي الجمعي، كل ذلك ليس عبثًا، بل خطة ممنهجة لإسقاط ما لم يسقط بالنار. في هذا النوع من الحروب، العدو لا يصوب نحو جسدك، بل نحو وعيك، لا يطلب منك أن تنهزم، بل أن تعتقد بأنك تنتصر وأنت تنهار، فما الحاجة لجنود، إذا كنت ستقوض بيتك بيدك..؟ وما الحاجة لحصار، إذا كنت ستقطع شرايين وطنك بذريعة "الإنقاذ..؟ كم من حماس أعمى، قاد إلى ذبح القضية بسكين صاحبها، وكم من أبناء الأرض تحولوا، دون وعي، إلى جسورٍ يعبر عليها الغزاة نحو قلب الوطن
الحرب الحقيقية اليوم، ليست تلك التي تخاض بالسلاح، بل تلك التي تخاض بالفكرة، إذ لم يعد الميدان على الحدود.. بل في العقول. وأخطر ما تواجهه الأمم اليوم، ليس العدو الظاهر، بل أولئك الذين يتكلمون بلسانها، ويتحركون من داخلها، وهم في الحقيقة يسهلون طريق الخصم دون أن يشعروا، فالنتيجة: تمزيق الصف، وإهدار الطاقات، وإعادة إنتاج الضعف بأيدٍ وطنية، لا شيء أخطر من أن نتحول إلى أدوات في يد العدو ونحن نظن أنفسنا منقذين، ما أكثر الهدايا التي نمنحها لخصومنا مجانًا، حين نظن أننا نثور، ونحن في الحقيقة ننفذ ونهدم، حين نرفع شعار الحرية، بينما نسلم آخر قلاع الكرامة لعدوٍّ لم يرهق نفسه بطلقة واحدة.
ليست الخيانة في أن تبيع الوطن.. بل في أن تهدمه وأنت تظن أنك تبنيه، وليست الهزيمة في أن تُقهر… بل في أن تتحول دون وعي إلى أداة يُقهر بها وطنك. لذلك، أيها الغافلون عن دهاء العدو، لا تكونوا هديته المجانية، ولا تكونوا ضحيته وجلاده في آنٍ معاً. فالنقد، إن خلا من الوعي، يصبح ثغرة، والحماس، إن خلا من البصيرة، يتحول إلى سيفٍ يرتد على صاحبه، علينا أن ننتبه ألا نكون الجسر الذي يعبر عليه خصوم الوطن إلى أعماقه
في الختام، العدو الحقيقي لا يأتي من الخارج فحسب، بل من كل غافلٍ في الداخل ظنّ أن الحماسة وعي، وأن الصراخ موقف، وأن الهدم إصلاح، فاحذر أن تكون طعنةً من حيث ظننت أنك تضمّد الجرح.