الكرمُ الأنيق حينما تُغسل الأيادي بالوعي والإيمان
في زوايا العادات التي توارثتها المجتمعات اليمنية جيلا بعد جيل، تبرز صورة مألوفة ومحببة: اجتماع الضيوف حول مائدة الكرم، حيث يمرّ المضيف أو أحد أهل بيته بإناء الماء على الضيوف واحدا تلو الآخر، ليغسلوا أيديهم فيه قبل الأكل وبعده. مشهد يُعبّر عن حسن الضيافة، وحرارة الاستقبال، وتكافل المجالس؛ لكنه في ذات الوقت يطرح سؤالا حتميّا: هل بقي هذا العُرف ملبّيا لمقاصده مع تغيُّر الزمن وتطور الوعي الصحي؟ أم أننا نتمسك بصورة الكرم القديمة على حساب قيمٍ جديدة لا تقلُّ عنه أهمية: النظافة، الوقاية، والذوق السليم؟
لقد دفعتني تجربة شخصية قديمة إلى التأمل العميق في هذا العُرف، حينما أوشكتُ أن أرى أحد الضيوف يشرب من إناء الغسل المشترك؛ غير منتبه إلى ما سبق من استخدام، أو ربما منساقا إلى عادةٍ في بيئته تجعل من ذلك أمرا مألوفا. عندها أدركت حجم الخطأ الذي قد نقترفه – دون قصد – بحق صحتنا وصحة ضيوفنا، حينما نغسل أيدينا جميعا في إناء واحد، فيختلط ماء اليد الطاهرة بالملوّثة، والبكتيريا تنتقل بين الأصابع دون أن تُستأذن.
ومنذ ذلك اليوم، اخترت – بكل محبة ولباقة – أن أطلب من ضيوفي التوجه إلى صنبور الماء، ليغسل كلٌّ يديه بنفسه تحت الماء الجاري، معتذرا بلطف، ومبررا أن هذا أنظف، وأكرم، وأليق بمكانتهم، وبمقام الضيافة. فالكرم الحقيقي لا يكتمل بالطعام فقط؛ بل بالحرص على صحة من نُحب، وبالاهتمام بتفاصيل راحتهم ووقايتهم.
وإذا كانت العادة القديمة تُعبّر عن الكرم في صورتها؛ فإن بالإمكان تطويرها إلى صورة أجمل وأكثر رقيّا: بأن يُحضَر إبريق نظيف ووعاء مخصص، فيقوم المضيف – بكل تقدير – بصبّ الماء على يدي ضيفه ليغسلها، في مشهد يجمع بين المبالغة في الإكرام، والرقيّ في النظافة. وإن زاد الكرم بأن يُقدَّم صابونٌ طيب الرائحة، فهذا من تمام الذوق، وكمال العناية؛ بل ومن السنّة النبوية التي اعتنت بالطهارة ظاهرا وباطنا.
ومن اللافت أن كثيرا من الناس لا يزالون يهتمون بغسل أيديهم بعد الطعام فقط؛ حرصا على النظافة الظاهرة، أو على الطيب والرائحة، بينما يغفلون – عن غير قصد – عن الأهم، وهو غسلها قبل الطعام، لما فيه من وقاية من الجراثيم، وتطهير لما قد علق بها من شوائب خفية. وقد قال النبي ﷺ: "بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده" [رواه الترمذي]. أي غسل اليدين؛ فالطهارة قبل الطعام ليست مسألة شكلية؛ بل جوهرٌ من جوهر الإيمان، كما قال ﷺ: "الطهور شطر الإيمان" [رواه مسلم].
إن العادات الاجتماعية الجميلة لا ينبغي أن تكون قيدا على وعينا؛ بل جسرا نعبر من خلاله إلى ما هو أرفع. والكرم الذي لا يصحبه حرصٌ على صحة الآخرين، قد يكون في مظهره فضلا، وفي جوهره تقصير. والوعي الصحي ليس فقط من علامات الحضارة؛ بل من دلائل الإيمان؛ لأن ديننا العظيم علّمنا أن الإنسان مسؤول عن بدنه، ومطالبٌ بحفظه، كما هو مأمورٌ بإكرام الضيف والعناية به.
فلنُحسن التوفيق بين الموروث والوعي، ولنُضف إلى كرمنا الطيب جمالَ النظافة، ولنجعل من مائدة الضيافة لوحة تعبق بالذوق، وتفيض بالرحمة، وتُبنى على الإيمان.
فما أجمل الكرم إذا اجتمع فيه الذوق، والطهارة، والنية الصافية! وما أكرم الإنسان، إذا غسل يده بماء نظيف، وقلبه بنية طيبة، وفعله بحكمة راشدة!
ودمتم سالمين!