العاطفة في صناعة القرار السياسي ...
منذ استقلال جنوب اليمن عن الاستعمار البريطاني عام 1967،م سلكت الدولة الوليدة نهجًا ثوريّا صارمًا قادته “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن” ولاحقًا الحزب الاشتراكي اليمني. ورغم الطابع الأيديولوجي الذي اتسم بالانضباط الحزبي والمركزية الصلبة، إلا أن السياسة الداخلية والخارجية للدولة لم تكن خالية من تأثير العاطفة والانفعالات الفردية والجمعية. فقد شهدت تلك الحقبة تناقضًا لافتًا بين الطرح النظري الصلب والتطبيق العملي الذي انطوى أحيانًا على قرارات عاطفية، بل ومندفعة.
انطلقت دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من خلفية تحررية ثورية، متأثرة بالنموذج السوفييتي والكوبي، العنيف حيث ساد خطاب سياسي يخلو ظاهريًا من العاطفة الشخصية، ويعتمد على مفاهيم مثل الصراع الطبقي، والتحرر من الإمبريالية، والتضامن الأممي. غير أن هذا الخطاب، رغم صرامته الشكلية، كان يحمل في مضمونه وجدانًا ثوريًا تعبويًا، يستخدم مفردات الانتماء والعدالة والمظلومية التاريخية، وهي مفاهيم ذات شحنة عاطفية.
لعبت العواطف دورًا مهمًا في العلاقات بين القيادات الجنوبية، وهو ما يتضح في حالات الانقسام العنيف داخل الحزب الواحد، كما في أحداث 13 يناير 1986م الدامية، التي كانت نتاجًا لتراكم مشاعر شخصية وتاريخية، أكثر منها خلافات أيديولوجية جوهرية. فالصراع بين أنصار علي ناصر محمد وأنصار علي عنتر لم يكن مجرد صراع تيارات، بل مثّل انفجارًا لعاطفة الغضب والرغبة في الانتقام، وهو ما أفضى إلى سفك دماء رفاق السلاح والثورة.
في العلاقات الخارجية، اتبعت القيادة الجنوبية أحيانًا قرارات يغلب عليها الطابع الانفعالي، مثل مواقفها المتغيرة من بعض الدول العربية، وتبدل تحالفاتها بين المعسكر الشرقي والغربي ، بل حتى في خطابها تجاه الشمال اليمني، كانت المفردات العاطفية حاضرة بقوة: “الرجعية”، “الخيانة”، “الوحدة الحلم”، وكلها مصطلحات تعبّر عن انفعالات سياسية أكثر من كونها مواقف استراتيجية عقلانية.
تظهر العاطفة جلية في الأدبيات الثورية الصادرة عن الحزب، والتي كانت تحاول الجمع بين الالتزام العقائدي والتحفيز العاطفي للجماهير. إذ لم تخلُ المنشورات الرسمية، والخطابات، والشعارات من نبرة وجدانية تعتمد على الإلهام، والنداء للضمير، واستدعاء البطولة والشهادة، وكلها أدوات تعبئة لا تنفصل عن العاطفة الجماعية.
إن تجربة جنوب اليمن السياسية خلال فترة ما قبل الوحدة تُبرز بشكل لافت أن العاطفة – سواء على مستوى القيادة أو الخطاب أو الجماهير – لم تكن نقيضًا للأيديولوجيا بقدر ما كانت جزءًا فاعلًا منها. فالعاطفة الثورية، والارتباط الوجداني بالقضية، والانفعالات الفردية داخل الحزب، كلها عناصر شاركت بفعالية في صنع القرار، وطبعت مرحلة حاسمة من تاريخ الجنوب الحديث بطابعها عاطفي افضت الى الإنتحار في نصف الطريق.