حينما يصير الكلام عبئا على السامع!

في زمن تتسابق فيه الكلمات، وتتنافس فيه العبارات على لفت الأنظار، تظهر ظاهرة غريبة؛ لكنها متكررة! تُعرف بـ"الطول الممل" أو "التمطيط الخطابي". ظاهرة قد تبدو للوهلة الأولى كوسيلة لإظهار الثقة؛ لكنها في حقيقتها تُعطي انطباعا معاكسا، وتُثقل كاهل المستمعين، وتُفقد الكلام قيمته ومعناه.

تخيل أن محاضرا أو خطيبا يقف أمام جمهور، ويبدأ في إطالة حديثه بشكل مبالغ فيه، يكرر فيه الأفكار، ويُبطئ في إلقائه، وكأنه يسعى لإخفاء نقص في المحتوى أو ليُظهر نفسه بمظهر الخبير، رغم أن ما يقوله غالبا لا يحمل جديدا، ولا يضيف شيئا يُذكر. هذا السلوك يُطلق عليه أحيانا "التضخيم الخطابي" أو "الاستطالة البلاغية غير المُنتِجة"، وفي التحليل النفسي يُقارب بـ"الثرثرة المقنّعة بثقة زائفة" أو "الإطناب التعويضي".

وما يدفع المتحدث إلى هذا الأسلوب, يعود إلى أسباب كثيرة، وأهمها:

- ضعف المحتوى أو عدم التحضير الجيد؛ فيلجأ إلى التمطيط والتكرار ليخفي نقص المعلومات.

- رغبة نفسية في إظهار نفسه بمظهر الخبير؛ حيث يعتقد أن إطالة الكلام تعكس علمه وفضله.

- غياب التغذية الراجعة الصادقة، خاصة في بيئات لا تُواجه المتحدث بنقد بناء أو تواضع، مما يعزز من ثقته الزائدة.

- خلط بين أسلوب التمثيل المسرحي والمحاضرة العلمية، حيث يُعتمد على الأداء التمثيلي بدلا من المحتوى العلمي.

- وأخيرا، تقدير ذاتي مرتفع غير واقعي، يعتقد معه أن إطالة الكلام تُبرز مكانته، رغم أن العكس هو الصحيح.

أما عن الأضرار، فهي كثيرة وخطيرة. فهي لا تقتصر على إضاعة وقت الجمهور؛ بل تتعداه إلى تفريغ المحتوى من جوهره، مما يقلل من فعاليته ويُضعف من مصداقية المتحدث. كما أن الجمهور، خاصة الفئة الواعية، يبدأ في فقدان الثقة بالمحاضر، وتتشوه صورة المنبر العلمي أو التربوي، ويصبح من الصعب عليهم الاستماع أو المشاركة، نتيجة للملل والإحباط.

ختاما؛ تبقّى التأكيد أن الكلام الموجز والواضح هو الأداة الأنجع لنقل الأفكار، الإفادة الحقيقية لا تأتي من طول الكلام، أو التكرار غير الضروري؛ بل من محتوى غني، يُحترم فيه وقت المستمع، ويُراعى فيه الذوق العام. فليكن كلامنا دائما موجزا، مفيدا، وملهما، لنُحدث فرقا حقيقيا في منابرنا، بدل أن يتحول حديثنا إلى عبء يثقل كواهل من يستمع إلينا.

ودمتم سالمين!