البركة في فضل السعي والحركة

ما أجمل هذا الدين الذي رفع من قيمة العمل، وجعل للسعي في طلب الرزق مقاما رفيعا، حتى إنه قرن بين السعي للآخرة والسعي في الدنيا في كتابه الكريم، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19].

والسعي في اللغة العربية يعني الحركة الجادة، التي تدفعك للأمام بحماس وهمّة. وفي الإسلام، هو سلوك شريف، يقصد به حفظ الكرامة، لا إذلال النفس، وتحقيق التوازن بين الدين والدنيا.

والعمل ليس نقيض التوكل على الله؛ بل هو دليل عليه، وتجسيد لثقتك برزق الله. سُئل الحسن البصري عن قوم تركوا الكسب بحجة التوكل، فقال: "هم متأكّلون، لا متوكلون... المتوكل من ألقى الحب ثم توكل على الله".

تأملوا سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ما عرف الكسل طريقا؛ عمل راعيا، وسافر تاجرا، وخاض الحروب قائدا، وأدار الدولة حاكما، وربى الأجيال معلما. وكان يقول: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يُتقنه». وقال أيضًا: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم».

وكان الصحابة رضوان الله عليهم مثل نبيهم في الجدّ والسعي؛ فعبد الرحمن بن عوف، لما هاجر فقيرًا للمدينة، عرض عليه أخوه الأنصاري المال، فقال له: "بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق"، فانطلق صفر اليدين، فعاد غنيًا كريمًا. وعمر بن الخطاب قالها بصدق: "يعجبني الرجل، فإذا قيل لا صنعة له؛ سقط من عيني".

بل إن الإمام مالك، وهو من أئمة الدين، قال: "طلب المعاش أفضل من الجهاد إذا كان المرء محتاجًا إليه". فأن تغني نفسك عن سؤال الناس، جهاد لا يُقل شأنا.

ونصوص القرآن والسنة تنبض بالتحفيز على العمل:

- قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10].

- وقال: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 11].

- وذمّ الله البطالة والكسل، وذكر حال المنافقين: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النساء: 142].

- وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا».

فكم نحن بحاجة لهذه الكلمات في زمن تعلّق فيه كثيرون بالراحة، وتنازلوا عن عزة الكدّ.

وسير الصحابة والتابعين تحكي ذلك:

- أبو بكر كان يتاجر وهو خليفة.

- الزبير كان تاجرا.

- وسعد بن أبي وقاص كان يزرع ويتصدق من عمل يده.

قال الشافعي: "لو لم يُبتلَ المسلم إلا بالخروج لطلب الحلال، لكان ذلك كافيًا". وقال الإمام أحمد: "طلب الحلال جهاد في سبيل الله".

والسعي سنّة كونية، ومن جدّ وجد، ومن زرع حصد. ومن توكّل دون حركة، فقد توهّم. قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾. وقال علي بن أبي طالب: "الكسل يُفقر، والعجز يُذل". وقيل في الحكمة: "لا تحسب المجدَ تمرا أنت آكله، لن تبلغ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا".

إن البركة رزق عظيم، لا تأتي بكثرة المال فقط؛ بل بقيمته، ودوامه، وأثره. قال الله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ﴾.

وبركة العمل ليست في الربح وحده، بل في الطمأنينة، والرضا، والعزّة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى».

وفي الأثر: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء».

وقال أحد الصالحين: "رب درهم من الحلال، بورك فيه، كان أنفع من ألف درهم من الحرام".

قال الشاعر:

وما نالَ المجدَ من نامَ الليالي

ولا من ركنَ التواكلَ في المجالي

ولكن من سعى لله دومًا

بصدقِ النيةِ وارتقى المعالي

فيا من تسأل عن البركة، اعلم أنها لا تهبط من السماء بلا سبب؛ بل تسير على قدميك حين تتحرك بجد وإخلاص. ويا من تطلب الرفعة، ابدأ من العمل، واصدق في النية، وامضِ في الطريق، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. فالبركة إنما هي في السعي والحركة مع كمال التوكل والاعتماد على الله تعالى.

ودمتم سالمين!