"ميرديكا" الدرس الماليزي الذي نحتاجه

في زمنٍ تعصف به التحدّيات وتتقاذفه المتغيّرات، يترنّح في مهبّ الريح وطنٌ كان عظيمًا يومًا، واليوم كلما حاول الخروج من نفق السقوط والضياع، أعادته مشاريعٌ لا تنتمي إليه إلى ذات الدوامة، وكأننا في معركة بقاءٍ لا مكان فيها إلا للأقوى.

ولو أننا نمعن النظر في العالم من حولنا، لوجدنا أننا لسنا وحدنا من خاض تلك المعركة المصيرية، فهي معركة عاشتها وتعيشها على الدوام كل الدول والمجتمعات والأمم، غير أن هناك أممٌ نجت فسادت، وأخرى انهزمت وبادت، ولو سألت الناجين من تلك المعارك المصيرية، عن كيف نجوا، لوجدت أنهم أولئك الذين اكتشفوا عوامل قوتهم الذاتية، فعززوها وطوروها، وعملوا على تجاوز مكامن ضعفهم وقصورهم، ليضمنوا لمجتمعاتهم البقاء على قيد الحياة، ويحققوا لأفرادهم العزّة والكرامة والاستقرار والازدهار، هم من أغلقوا دفاتر الماضي بجراحاتها وآلامها، ولم يبقوا أسرى لها، وعبروا نحو المستقبل، وكفّوا عن التفاخرِ بآبائهم وأجدادهم، بل قالوا ها نحنُ ذا، هم الذين أخرجوا من قواميسهم الشعارات الشعبوية الجوفاء وحولوها إلى برامج عملية، ورموا في مكبّ النفايات شعارات الكراهية والأحقاد والاستعلاء، واستبدلوها بسلوكيات المحبة والتآلف والانتماء، هم الذين أدركوا أن فوهات البنادق تصلح فقط في الخنادق للدفاع عن الأوطان حين البأس، لكن حين يأتي وقت البناء والنهوض، فإنّ له رجالاته المتسلحة بذخائر العلم والمعرفة والتجربة.

وحين نتأمل التجربة الماليزية، نجد أنفسنا أمام قصة ملهمة تستحق أن تُروى، لا لأنها بعيدة عنا جغرافيًا، بل لأنها قريبة جدًا من واقعنا الاجتماعي والثقافي، ففي صباح يوم 31 أغسطس 1957م، وقف تنكو عبد الرحمن، أول رئيس وزراء ماليزي، في ميدان الاستقلال وسط العاصمة كوالالمبور، ليطلق صيحاته السبع الشهيرة: ( ميرديكا)، أي (الاستقلال)، ورددت خلفه الجماهير التي احتشدت بالآلاف، لم تكن تلك الصيحات مجرد إعلان سياسي عن رحيل استعمارٍ وبزوغ فجرِ دولةٍ جديدة، بل كانت إيذانًا بميلاد مشروع وطني جامع، ومنذ ذلك اليوم، انطلقت ماليزيا في مسارٍ مختلف، لتصبح بعد أكثر من ستة عقودٍ نموذجًا فريدًا في التعايش والانسجام والتنمية والازدهار، بل لا أبالغ إن أسميتها: (ماليزيا: نموذج التوحّد، في ظل التعدد).

فعلتها ماليزيا، نعم فعلتها، فهي لم تنكر تعدّدها العرقي والديني والثقافي، بل اعترفت به وجعلته مصدر قوةٍ واستقرار، بينما في غيرها كان نواةً للصراعِ والاقتتال، أعطت السكان الأصليين مكانتهم، واحترمت جميع الأعراق بغض النظر عن حجمها، وجعلت المالايو والصينيين والهنود مواطنين متساوين أمام القانون.

سمحت للهويات المحلية أن تبقى حاضرة ومزدهرة، وجمعتها كزهورٍ ملونةٍ في قلادة واحدة لتجعل منها إطار هويةٍ وطنية جامعة تتسع للجميع. ومن هنا تحوّلت الأعياد والمناسبات الخاصة بكل عرقٍ أو طائفةٍ أو منطقةٍ إلى أعياد وطنية مشتركة، يحتفي بها ويحتفل الجميع، فأصبح لكل مكوّن نصيب من الاعتراف والاحتفاء، حتى صارت ماليزيا بلدًا يحتفل بجميع أبنائه دون استثناء، وهنا يزول الاستغراب حينما تعلم أن لدى ماليزيا قرابة (52) يوم إجازةٍ في العام، بل وعلى مستوى الولايات، لكل ولاية علمها ونشيدها الخاص بها، يرفعونه ويرددونه في مناسباتهم وفعالياتهم، لكن حين يُرفع العلم الماليزي الواحد ويُنشَد نشيد (نيجاراكو) الجميل، يقف الجميع صفًا واحدًا بلا استثناء احترامًا لهوية وطنية موحدة أسمى وأجمل.

وفي المقابل، يقف يمننا الحبيب اليوم على جراح عقدٍ من الحرب والاقتتال، تحت شعاراتٍ صاخبة: (الوحدة أو الموت) و(الانفصال أو الموت)، فلم يتحقق إلا الموت ذاته.

فالوطن الذي يعاني اقتصاديًا ومعيشيًا يرزح ايضًا تحت حكم المليشيات وجنرالاتها - إمّا رسميّا أو فعليًّا - وتلاشت أحلام أبنائه وطموحاتهم، فأصبحت الهجرة أملهم، أو – الأكثر مرارة – الالتحاق بإحدى التشكيلات العسكرية. تعددت الرايات وتشظت الهوية، وتناهشت الوطنَ المشاريعُ التي تصرخُ باسمه، ولكن ليس له فيها مكان.

ومع كل ذلك، يظل هذا الوطن يملك كل مقومات القوة: موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا، ثروات طبيعية، تاريخًا عريقًا، نسيجًا اجتماعيًا متنوعًا، وشعبًا صلبًا عنيدًا مصابرًا، لكنه يفتقد أهم مقوّمٍ للاستقرار: المشروع الوطني الجامع.

إن ما ينقصنا ليس الموارد ولا الإمكانيات، وإنما الرؤية التي تجعل من تعددنا عامل قوة لا سبب صراع، ومن اختلافنا تنوّعًا يُثري التجربة لا حربًا تفتك بالوطن، نحن بحاجة إلى مشروع وطني يضمن للجميع الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، ويكفل لهم عيشًا كريمًا في وطنٍ واحد لا يُقصي أحدًا ولا يتنكر لهوية أحد، فالنموذج الماليزي يقول لنا بوضوح إن التعدّد يمكن أن يتحول إلى مصدر قوة، وإن الاختلاف يمكن أن يصبح وحدة، وإن الهوية الوطنية يمكن أن تكون جامعة دون أن تلغي الخصوصيات.

فهل ندرك نحن، أبناء اليمن، أن سفينتنا تغرق؟ وهل نعي أن لا نجاة لفرد أو جماعة إذا غرق الوطن؟ إن اللحظة التاريخية التي نعيشها لا تحتمل المزيد من الشعارات الجوفاء ولا المشاريع الضيقة، إنها لحظة تستدعي وعيًا عميقًا بأن خلاصنا جميعًا يكمن في بناء دولة يمنية عادلة، تحترم تعددها وتوحده، وتعيد للشعب حقه في الحياة الكريمة والحرية والسيادة.

   أمام كل هذا الخراب والانقسام، يبقى الأمل ممكنًا.

 لقد فعلتها ماليزيا، ونحن قادرون على أن نفعلها، ليس لأننا أكثر منها تجربة ولا أقل تنوعًا، بل لأننا إن صدقت النوايا واجتمعت الإرادات، نملك من التاريخ والجغرافيا والإنسان ما يجعلنا نصنع معجزة وطنية حقيقية، اليمن بحاجة إلى (ميرديكا) جديدة، لا تُعلن فقط الاستقلال من الخارج، بل تُحرر الداخل من انقساماته وأوهامه وصراعاته، وتفتح الباب لميلاد مشروع وطني جديد، مشروع يليق بشعبٍ لم يعرف عبر تاريخه إلا الكبرياء والأنفة والقدرة على النهوض مهما اشتدت المحن.