من وحي يوم السرد القرآني *رسالة إلى أخي (محمد أحمد فضل عبد النبي)*
كتب أبو زين ناصر الوليدي
أتذكر وأنا طالب في مدرسة (القريبي بأورمة- مودية - أبين) أنه كان يسبقني بثلاث سنوات طالب من قرية (ساكن البير) كان في دفعة أخي علي فكان يحصد المركز الأول، بينما كان أخي يحصد المركز الثاني، هذا الطالب اسمه (محمد أحمد فضل عبد النبي) لا أزال أتذكر هيئته وسحنته وطريقته في المشي والحديث، كان هناك إجماع بين الطلاب والمعلمين أن هذا الطالب نابغة لا يعلو عليه أي طالب في المدرسة كلها، وكان الكل يتوقع له مستقبلا باذخا يتساوى مع علو مستواه العلمي وجهده في التعلم ودرجة المثابرة في التحصيل، بالإضافة إلى أخلاقه العالية وحسن أدبه وسمته وتفوقه في فن العلاقات مع المعلمين والطلاب.
كل تلك المؤهلات العلمية والأخلاقية جعلت الطريق أمامه ممهدا ليكون طبيبا مشهورا أو طيارا أو مهندساً كبيراً أو عالما ذريا، خاصة وهو ابن الضابط العسكري خريج الكلية الحربية، ووجود أب ضابط سيكون بمثابة الكهف الذي تحتمي به طموحات الولد والسفينة التي تبحر عليها أحلامه.
انتقل الطالب محمد إلى الثانوية وانتقل معه تفوقه وطموحه، وأحلامه التي لا يعيقها إلا بطء سير الزمن.
ولكن .....
حصل ما لم يكن في الحسبان....
جاءت أحداث ١٣ يناير ١٩٨٦م المؤلمة وجرفت معها الكثير من الأحلام، وحطمت الكثير من الآمال، وأطفات أشعة كانت تنير الطريق لكثير من السائرين.
قتل الملازم أول (أحمد فضل عبد النبي) فكأنما هبت على عائلته عاصفة هوجاء اقتلعت خيمتهم وتركتهم في العراء، فأشرق عليهم الصباح ولا معيل لهم، مثلهم مثل الكثيرين الذي قتلوا في هذه الحرب الخاسرة، وهنا كان لزاما على الطالب محمد أن ينزل من صهوة جواد أحلامه وأن ينزل من علياء برج طموحاته ويتحمل المسؤولية الكاملة عن إخوانه اليتامى وأمه الأرملة وهو لم يبلغ حد الشباب بعد، لقد كانت العاصفة أقوى منه ومن كل آماله، يتجه الولد إلى الشرطة ومنها إلى العمل الحر يضرب في الأسواق يتنقل من عمل بسيط إلى عمل آخر كي يرى البسمة تتغشى وجه أمه ويسمع الضحكة تدوي من إخوانه، ونسي صورة الطبيب والسماعة التي تتدلى على صدره، وصورة عالم الذرة في مختبرات علومه وأنغمس في زحام الحياة بحثاً عن لقمة ينتزعها من أنياب الفقر ليطعم بها عائلته الكريمة. ........
دارت عجلة الزمان وكبر الإخوة وشقوا طريقهم في الحياة كما شق هو طريقه في حياته فتزوج (في نفس اليوم الذي تزوجت فيه أنا) وأصبح له أبناء وبنات.
كان مشروعه في الحياة تربية الأجيال، فكما ربى إخوانه ربى أولاده، فغرس في قلوب أبنائه حب الله ورسوله والإسلام والتعلق بالقرآن الكريم، وأرسلهم إلى حلقات تعليم القرآن، فكانت حياتهم بين المدرسة والمسجد حتى أتم الأولاد حفظ القرآن ولزما المصحف وعكفا على تلاوته وإطالة النظر فيه وتكراره حتى أصبح القرآن أنيسهم وونيسهم وجليسهم، والمسجد مكان راحتهم وموقع سعادتهم.
فلما جاء الإعلان عن يوم السرد القرآني هرع الأخوان للتسجيل في هذا البرنامج المبارك، وفي اليوم الموعود وصلا إلى جامع الجامعة وتقدم كل منهما بين يدي أستاذه يتلو عليه آيات الذكر الحكيم رقراقا ينساب من ألسنتهم كما تسيل القطرة من في السقاء حتى أكملا المصحف دون أي (خطأ أو فتح أو تنبيه)، فحازا الشرف العظيم بهذا الحفظ والإتقان العجيب.. وهذه الدرجة من الإتقان لم ينلها من ال ١٣٩ ساردا إلا ستة طلاب وعلى رأسهم الأخوان (أحمد وسالم) .
أخي محمد: لم تذهب تضحيتك سدى ولم يضع الله أجرك ولا سنين عمرك فأنت تحصد اليوم من المجد غايته ومن الشرف ذروته، فهذه ثمرة عطائك وجهدك وجهادك وسعيك ونتيجة رضا الله عنك وعن مسعاك. فلم يفتك شيء ولم يضع عنك حلم ولا طموح، ولسوف يقال لأبنائك يوم القيامة ( اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها) (وأحمد وسالم) في ميزان حسناتك يوم القيامة، فأي خير أعظم من هذا:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء)
تحياتي لك أخي وصديقي النبيل الذي أكن له كل الحب والتقدير، وأسأل الله تعالى أن يجمعنا بكم في جنات النعيم نحن وأنتم وذرياتنا ومن نحب ومن قال آمين.
. أخوك المحب لك أبو زين ناصر الوليدي.
.