قصة نازحة من أبين

كتب: أبو زين ناصر الوليدي

الزمان: عام ٢٠١١م 
المكان: مدينة عدن 

رفعت (هيلة) الستر العتيق الذي يغطي باب أحد صفوف المدرسة التي يقيم فيها عدد من نازحي أبين، ونادت بصوت يدل على الاستعجال: 
ــ هيا يا (أم سعيد) لقد تأخرنا، لقد أصبحت الساعة السابعة، والمسافة إلى المدرسة بعيدة.
ــ لقد سئمنا من الأكاذيب يا هيلة، فمرّة يقولون سيجري التوزيع عند جولة السفينة، ومرة عند فندق الأشبط، ومرّة ومرّة، وكل مرّة نرجع بخفي حنين.
ــ كل النازحين يقولون إنهم هذه المرة صادقون، والحمد لله أننا قد سجلنا قبل ثلاثة أشهر.
ــ وأين سيجري التوزيع هذه المرّة يا هيلة؟ قالت أم سعيد وهي تلبس عباءتها:
ــ في مدرسة ١٤ أكتوبر.
ــ مدرسة ١٤ أكتوبر!؟؟؟؟
 ارتعشت أم سعيد وكأنما صعقها مسٌّ كهربائي، وتسمَّرت مكانها، وقفزت من عينيها دمعتان أخفتهما عن جارتها حين كانت تلبس برقعها.
ــ نعم يا أم سعيد، والمسافة إلى هناك طويلة، خاصة أنَّا لا نملك إيجار السيارة، وسنضطر للمشي على الأقدام.
انطلقت أم سعيد وصاحبتها إلى الحي الذي تقع فيه مدرسة ١٤ أكتوبر، حيث ستقوم الدولة بتوزيع المؤن على نازحي أبين.
ما كادت هيلة ترى المدرسة والبيوت المحيطة بها وترى النازحين يملؤون ساحات المدرسة رجالًا ونساءً حتى صاحت في جارتها: 
ــ هيا أسرعي يا أم سعيد قبل أن ينادوا بأسمائنا.
وقفت أم سعيد قريبًا من المدرسة، وأخذت تلتفت يمينًا وشمالًا كأنها تبحث عن مفقود، ثم أطلقت تنهيدة كادت تمزق نياط قلبها.
ــ لم يعد له أثر يُذكــر!!
ــ ما هو يا أم سعيد؟ هيا انطلقي قبل الزحام.
ــ هيا هيا يا هيلة! قالت أم سعيد وهي تجر خطاها، وكأنما هي محملة بكل أثقال الذكريات.
اتجهت الجارتان نحو بوابة المدرسة، نظرت أم سعيد إلى اللوحة المنحوتة بالإسمنت في مدخل المدرسة
{مدرسة ١٤ أكتوبر}
شعرت بقشعريرة تغشاها.
الساحات ممتلئة بالنازحين القادمين من المدارس المجاورة، وفي نافذة أحد الصفوف يقف شاب أسمر البشرة ينادي بأعلى صوته أسماء المستحقين للمعونات بحسب الأسبقية في التسجيل.
وقفت أم سعيد وجارتها يصغيان إلى ذلك الصوت عله ينطق بأسمائهما.
ــ لا تبتعدي عني يا هيلة، فإني أشعر بالتعب والإرهاق. 
ــ تعالي يا أم سعيد نسترح في ظل تلك الشجرة حتى يأتي دورنا.
جلست أم سعيد وجارتها في ظل شجرة كبيرة مواجهة للصفوف، شعرت بشيء من الراحة بعد الجهد الذي بذلته للوصول إلى هذا المكان، رغم حرارة الجو والعرق الذي يغطي جسدها، وشدة ضجيج الأصوات المزدحمة من حولها، ونعيق الغربان الذي لا يكف عن إزعاجها، رفعت رأسها فرأت لوحة قديمة مكتوب عليها بخط قديم: {الصف الثامن}
تسمَّرت عيناها في اللوحة، انسابت دموعها تحت برقعها، أطلقت العنان لخيالها ليعيد لها شريط الذكريات، تذكرت أم سعيد يوم كانت طالبة في هذه المدرسة حتى وصلت إلى الصف الثامن، هذه الغرفة نفسها، تذكرت أيامها الجميلة وطفولتها البريئة يوم كانت تلعب مع صويحباتها في هذه الساحات وتحت هذه الأشجار، تذكرت هدى وسلمى وسعاد وخديجة.
تذكرت أبويها وبيتها الذي يقع بجوار المدرسة والذي بيع بعد موت أبويها، ولم تجد له اليوم أثرًا يذكر، لقد هُدم وبنيت على أنقاضه محلات تجارية، حتى كاد يختفي مكانه.
صوت ذلك الشاب يقطع على أم سعيد ذكرياتها الجميلة 
.. عبدالله أحمد حسن 
.... فضل صالح حامد 
 ينادي الشاب الأسمر بصوت أجشّ 
الرجال والنساء يتقدمون نحو الصوت؛ ليحملوا ما يوزع لهم من المعونات.
تغيب أم سعيد في ذكرياتها، ذكريات الصف الثامن يوم كانت طالبة في هذا الصف تتقافز بين كراسيه وتطل من نوافذه، وتعبث بالسبورة والطباشير، يوم كانت تغني في الفسح مع زميلاتها حتى جاءها العريس من إحدى قرى زنجبار ليتقدم لخطبتها فينتزعها أبوها من مقعدها الدراسي لتُزفّ إلى فارس أحلامها.
ضجيج النازحين يقطع عليها الذكريات، ولايزال ذلك الشاب الواقف في النافذة ينادي 
.. محمد صالح سعد العاقل
.. سعيد أحمد محمد 
تعود أم سعيد إلى غيبوبتها مع الذكريات فتتذكر زفافها ورحيلها من عدن إلى زنجبار، لا تكاد عيناها تجف من الدمع، تذكرت الحبيب الراحل زوجها، تذكرت مرضه وآلامه ثم يوم وفاته، ثم كيف أصبحت بعده أرملة تحمل هم أبنائها، تذكرت بيتها وبقرتها وأغنامها، تذكرت قريتها وجيرانها.
وماذا فعلت الأحداث بهم؟؟
قطع الصوت عليها ذكرياتها:
.... أم سعيد
 نادى ذلك الشاب 
وقفت أم سعيد وهي متشنجة 
ــ نعم 
ــ هيا تقدمي يا أم سعيد لتتسلمي مستحقاتك 
صاحت أم سعيد بأعلى صوتها :
- لا، لا، لا، لا أريد دقيقكم، لا أريد زيتكم، لا أريد صدقاتكم، لا أريد فُتاتكم. 
ردوا عليَّ قريتي، ردوا عليَّ بيتي الذي قصفته الطائرات، ردوا عليّ بقرتي وأغنامي وحضيرتي، ردوا عليَّ جيراني وهوائي، ردوا عليَّ مطلع الشروق في قريتي، ردوا عليَّ احمرار الشفق في غروبي، ردوا عليَّ هزيع الليل على سطح بيتي، ردوا عليَّ أشجار الموز والمنجا، ردوا عليَّ أصوات مضخات الماء وهي تروي كبدي، ردوا عليَّ ذكريات عرسي ولعب أطفالي، ردوا عليَّ قبر زوجي، دعوني أزور تربته واستنشق عبيره، 
لا، لا أريد إحسانكم
 لا، لا
تصيح أم سعيد حتى بُح صوتها.
فتسقط مغشيًّا عليها.
يتجمَّع حولها المسعفون 
تصيح جارتها هيلة: خذوها إلى المستشفى فإنها مصابة بالسكر ولم تذق طعامًا منذُ يومين!!
صوت ذلك الشاب الواقف في النافذة يشق الصمت 
... علي سالم عبدالله أحمد
.. خالد خيران محمد
.
.
.
 *من كتابي كريستيانا الفاتنة* 
.