قصتي مع المروحة
بقلم / أبو زين ناصر الوليدي
في عام ١٩٨٢م تقريبا، وكنت حينها أقيم في منطقة (أورمة قرية منصب) شرق مديرية مودية أبين، هذه القرية حينها لا يتجاوز عدد بيوتها عشرة بيوت، لا كهرباء ولا ماطور ولا تلفزيون ولا أخبار. فتخيل أنت الإطار الثقافي والخلفية الفكرية والعلمية لهذا الطفل الذي تدور حياته من المدرسة إلى رعي الغنم إلى الجربة.
في صيف ذلك العام قررت الأسرة السفر إلى عدن للعلاج ولزيارة بعض الأقارب هناك، لعل هذه الزيارة هي أول زيارة لي إلى عدن، فحدود معرفتي هي سوق مودية وبعض القرى القريبة من قريتنا لا غير،
بعد مرور عدة أيام لنا في عدن دعينا لتناول وجبة الغداء عند أحد قراباتنا، فجلسنا معا على الغداء تحت *المروحة* طلبا للبرود، لأنها لم تكن توجد تلك الأيام مكيفات.
وبينما كنا نتناول الغداء وكان الحديث يدور عن شدة الحر والمراوح، قالت إحدى البنات وكانت تتغدى معنا( *مرة ناس كانوا يتغدون مثلنا الآن تحت المروحة فسقط المروحة على صحن الرز بينهم)* فضحك الكل ثم انتقلوا إلى حديث آخر.
أما أنا فقد تولدت عندي قناعة أن هذا هو سببل المراوح والغالب على أحوالها، أنها تسقط على رؤوس من تحتها، فعممت التجربة لأنه ليس لي سابق معرفة، وأصبت بما يشبه الرهاب، فكنت ألتقط لقيمات الرز وأنا أنتظر اللحظة التي تقع فيها المروحة على رأسي، وهكذا أصبح ديدني في رحلتي تلك إلى عدن، فكنت أبتعد من الجلوس تحت المراوح، ومن بعيد أراقب المروحة وأنتظر لحظة سقوطها، وكيف ستسقط وعلى رأس من ستقع؟ وتذهب توقعاتي كل مذهب، فحولت تلك القصة والنكتة رحلتي إلى عذاب وتفكير وقلق وكنت أتمنى أن الكهرباء تتوقف ويصبر الناس على شدة الحر حتى لا تصيبهم كوارث سقوط المراوح، وسيطرت المروحة على تفكيري ليل نهار، ولم ينقذني من هواجسي تلك إلا لحظة العودة إلى القرية ومغادرة عدن.
عدت إلى قريتي فتنفست الصعداء وشكرت الله على نعمة خلو بيوتنا من تلك المراوح اللعينة التي تسقط على رؤوس أصحابها.
إن مناط الحكاية يدور حول شخص لا يعرف قضية معينة من قبل، وعندما تعرف عليها عرفها من جانب سلبي نادر الحدوث تولدت عنه مفسدة موهومة، فعمم تلك المعرفة حتى استبدت على تلك القضية وأصبحت هي الأصل والأغلب فيها.
لم تدرك ابنة عمي سامحها الله التي قذقت بتلك النكتة أنها ستعمل في وجداني هذا العمل السلبي الكبير، وأنها صنعت لاحقا منها (قضية فلسفية) عميقة.
جميع مظاهر الحياة وحوادثها ووقائعها وحركتها توجد فيها جوانب سلبية، أو بلغة أخرى ما من مصلحة في هذه الحياة إلا وتحوي نسبة من المفسدة تزيد أو تقل. والعبرة بالغالب والأعم والأكثر، وإلا لفسدت حياتنا وتحولت إلى جنون ورهاب ويأس وإحباط وتخبط وفشل.
فتخيل مثلا أنك لا تعرف شيئا اسمه السيارة إلا أنك سمعت أن هناك في المدينة شيئا اسمه السيارات، وهذه السيارات تقتل في السنة عشرات الآلاف وتلوث البيئة وتترك جرحى ومصابين وتكلف الكثير من المال في الوقود والزيوت والإصلاحات وتسبب الزحام والضجيج زالأصوات المزعجة.. إلخ، بالتأكيد أنك ستستعيذ بالله من هذه الآلة الخطيرة على الإنسان والطبيعة والحياة، ولكن لم تصلك أخبار المصالح الكبرى في هذه السيارة والتي تتلاشى عندها بل تكاد تختفي معها كل هذه المفاسد الحقيقية.
وهكذا في بقية مظاهر الحياة وحركتها البشرية.
فبعض الأمهات مثلا تحذر أطفالها من فساد المجتمع وفساد الناس وتذكر له بعض الحوادث التي وقعت هنا وهناك من قضايا أخلاقية واختطافات وصراعات، فترسل له كما هائلا من الرسائل السلبية التي تصنع منه إنساناً سلبيا متوجسا قلقا، يرى الحياة قاتمة لا خير فيها من خلال نظارة سوداء صنعتها قصص وأخبار والدته، وهكذا أحياناً بعض الآباء يعطي لأولاده صورة سلبية ويعمم حوادث معينة عن منطقة معينة أو حزب أو جماعة أو قبيلة أو قرية فينشأ الطفل وتلك القناعة راسخة في قلبه رسوخ الأصابع في الراحتين.
وبعض الدعاة يعطي طلابه صورة سلبية عن المذهب الفقهي المعين فيذكر جوانب الخطأ والشذوذ في مفردات ذلك المذهب حتى يظن الطالب أن هذا المذهب صنعه الشيطان على لسان فقهائه، وهذا سبب في الماضي بعض الصراعات المذهبية والقناعات المتصلبة التي فوتت على الأمة حالة التوافق التوائم والتراص التي أمرها الله بها، وهكذا لا يزال الأمر في حالة الخلاف بين الفرق والمذاهب والجماعات الإسلامية، فلا تذكر أي فرقة لمخالفيها حسنة، وتركز على الجوانب السلبية عندهم، فينشأ الناشئة وهم يظنون أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة في تفاصيل أدبيات قناعاتهم، وأن مخالفهم متمسك بالباطل متشبث بالضلال مصر على الهلاك، فيتلوث جو الإخوة الإسلامية بالأحقاد والإحن والبغضاء.
وبعض المربين يبدأ يعلم الصغار قضايا الخلاف في كل مسألة علمية، فيظن المريد أن الدين كله خلافات وتفرعات، فيربك ذلك عقله وربما إيمانه، ولهذا يؤكد أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى أن من بدأ العلم بالخلاف فلن يخرج منه إلى آخر حياته.
وعليه يجب أن يبدأ المعلمون بالقضايا المحكمة ومسائل الإجماع سواء كان في القضايا الفقهية أو القضايا الفكرية حتى تترسخ قيم الإيمان في وجدان الطالب، ويعلم أين يضع قدمية فتتضح له الاتجاهات ويرتسم له الطريق كما هو على الحقيقة، لأن إقحام الطلاب في الخلاف يصنع طرقا كثيرة وخطوطا متعددة يفقد معها الطالب تمييز ومعرفة الخط المستقيم الذي يقود إلى الصواب في تلك المتاهة الكبيرة.
كل هؤلاء يتحركون في المنطقة التي رمت بها ابنة عمي خبرها عن تلك *المروحة* فسيطرت لحظات سقوط المروحة على مساحات شاسعة من وجدانهم، وعاشوا ينتظرون لحظات سقوطها، مع أني أنا صاحب قصة المروحة ومنذ عام ١٩٨٢م لم أشهد سقوط مروحة ألبتة .
ابنة عمي اليوم قد أصبحت امرأة كبيرة عندها أبناء وأحفاد ومراوح ومكيفات، ولكن قضية مروحتها في حقيقتها قضية فلسفية تحتاج إلى مزيد من التأمل.
والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
.