عيد الفطر: أنشودة الفرح وعيد القلوب الطاهرة

حينما يتهادى هلال شوال في الأفق، مبشّرا بانقضاء شهرٍ من الطهر والتجلّي، تدقّ القلوب أبواب الفرح، وتنبض الأرواح بأنغام الحمد والشكر، إذ يحلّ عيد الفطر كعطرٍ زكي يفوح في أرجاء الأمة، ليغسل عن القلوب عناء الصيام، ويهبها بهجة القرب من الله، ودفء التراحم بين العباد.

هو عيدٌ ليس كغيره من الأيام؛ بل هو ميلادٌ جديد للروح، تتويجٌ لرحلة الصائمين الذين طافوا في رياض الطاعة، فاستحقوا فرحة لا تضاهيها فرحة. قال ﷺ: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» (متفق عليه). وما أعذب فرحة العيد حين تتوشّح برداء العبادة، وحين يكون التكبير نشيد القلوب المطمئنة، فتتردد كلمات الله في الأفق:

﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185).

ليس العيد مجرّد احتفال عابر تتزين فيه الشوارع والبيوت؛ بل هو موسمٌ من مواسم الشكر، تُرفع فيه أكفّ الامتنان إلى السماء، شاكرةً لله أن بلّغ العابدين شهر الصيام، وأن أذن لهم بالوقوف على أعتاب يومٍ تغمره الرحمات. إنه فرحٌ بالطاعة لا يشوبه تفريط، وسعادة لا تفسدها غفلة، ففيه يجتمع الصفاء الروحي ببهجة اللقاء، ويتجلى فيه معنى الأخوّة والتلاحم.

وللعيد أسراره ومعانيه العميقة:

- فما العيد إلا احتفاءٌ بنعمة الهداية، واعترافٌ بالفضل الإلهي الذي يسّرت به العبادات، وهيأ للأرواح سُبل الفلاح.

- والإسلام لا يكبت الفرح؛ بل يوجهه ليكون طاقة بناء، لا مدعاةً للتجاوز والتفريط، قال ﷺ: «إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا» (متفق عليه).

- وفي العيد تُطرق الأبواب، وتتصافح القلوب، وتذوب الجفوات في محيط المودّة، فلا يكون العيد عيدًا إلا إذا عمّت فرحته الجميع.

- والصدقة تتهادى كنسائم الصباح، فتطهر الصائم مما قد شاب صيامه، وتكون زادا للفقراء، ليذوق الجميع حلاوة العيد دون أن تنطفئ في قلوبهم شموع الفرح.

وسنن العيد إنما هي طقوس للنقاء والبهجة؛ فمنذ غروب شمس رمضان حتى صلاة العيد، تهتزّ أركان الدنيا بنداءات التوحيد، معلنة أن العظمة لله وحده، وأن القلوب لم تزل مشدودة إلى رحابه.

والعيد إشراقة، ونقاء ظاهر وباطن، لذلك يُستحب للمسلم أن يكون في أبهى حلّة، متعطّرا بعبق الطهارة والجمال.

والإفطار قبل الصلاة سنةٌ نبوية تجسّد بهجة العيد، فقد كان النبي ﷺ لا يخرج للصلاة إلا بعد أن يتناول تمرات، استبشارا بيوم الفرح. 

وصلاة العيد مسك الختام لصيام الشهر، حين تتوحد الأمة في أروقة المساجد والمصليات، في خشوعٍ يأبى أن يرحل دون أن يترك أثره في القلب.

زالتهنئة الصادق "تقبل الله منا ومنكم" ليست مجرد عبارة؛ بل هي دعوةٌ مباركة، تحمل بين طياتها نسمات الحب في الله.

وليس الفرح أن نلبس الجديد، أو أن تعلو الضحكات بلا روح؛ بل الفرح في أن نستشعر نعمة العبودية، في أن نسعد بإسعاد غيرنا، في أن يكون العيد مدخلا لمزيد من الإحسان. قال الحسن البصري رحمه الله: "كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد"، فالعيد الحقيقي هو في استمرار الطاعة، وفي تجديد العهد مع الله، وفي أن يكون العيد محطةً تنطلق منها القلوب نحو مزيد من السمو والصفاء.

إن عيد الفطر ليس مجرّد مناسبة تتكرر كل عام؛ بل هو تجلٍّ لأجمل معاني الإسلام، فيه السكينة، وفيه العطاء، وفيه قلوبٌ تتلاقى تحت سماء المودة. فلنكن ممن يدركون جوهره الحقيقي، ونجعل منه مناسبةً للسلام الداخلي، وللتراحم الذي يبقى، لا الذي يزول بانتهاء اليوم. وليكن عيدنا عنوانا للفرح النقي، وللحب الذي ينبض بالإيمان، حتى يبقى أثره عابقا في الأرواح كما يبقى الورد حين يفوح بأريجه في الأرجاء.