الكمبوست الهوائي: ثورة زراعية نظيفة تقودها المعرفة والتجربة
من منطلق شغفي كباحث ومهتم بالعلوم البيئية المستدامة، دفعتني الرغبة العميقة لاكتشاف أسرار "الكمبوست" وفهم تفاصيله الشاملة إلى الغوص في بحر من المعلومات والبحوث والنظريات، حتى توصلت إلى قناعة علمية راسخة مفادها أن الكمبوست الهوائي هو أفضل ما توصل إليه العلم الحديث في مجال التسميد العضوي. وليس ذلك مجرد انحياز فكري؛ بل هي قناعة مبنية على دراسة مقارنة موضوعية بين أنواع الكمبوست، خصوصا الهوائي واللاهوائي، من حيث الفاعلية الزراعية، السلامة البيئية، وسهولة التطبيق.
لقد لاحظت أن العالم يتجه نحو الكمبوست الهوائي دون سواه، والسبب في ذلك واضح وجلي؛ فهو لا يكتفي بإمداد النبات بالعناصر الغذائية؛ بل يعالج التربة نفسها، ويعيد إليها حياتها الميكروبية وقدرتها الحيوية على الإنتاج؛ بعكس الكمبوست اللاهوائي الذي يتسبب - على المدى البعيد - في مشكلات بيئية وتدهور بنية التربة، ناهيك عن المشاكل الناتجة عن تخمره غير السليم وانبعاث الغازات الضارة خلال إنتاجه.
وبينما كنت أستزيد من العلوم النظرية حول الكمبوست الهوائي، افتقدت الجانب العملي التطبيقي الذي يمنح النظرية روحها، فبدأت النشر والتوعية بهذا النوع من السماد العضوي، والبحث عن أصحاب التجربة والخبرة، حتى وقعت على شخصية زراعية متميزة هي المهندس سالم عوض باضاوي، الذي أدهشني بإخلاصه وعلمه وخبرته في الجانب التطبيقي للكمبوست الهوائي، وتكوينه العلمي المتين من خلال دورات عملية تلقاها، وأنشطة تدريبية أشرف عليها ونفذها.
واستنادا إلى ما جمعته عنه من معلومات، قمت - ككاتب إعلامي - بكتابة مقالة مطولة عرفته فيها، ودعوت من خلالها الجهات المعنية ومنظمات المجتمع المدني والمراكز العلمية للاستفادة من علمه وخبرته، والعمل على نشر إنتاج الكمبوست الهوائي على مستوى البلاد. أرسلت المقال إليه وأعرب عن استعداده لتنفيذ دورة تدريبية في أبين، لكن لم أجد أي استجابة رسمية تُذكر.
لم أقف عند هذا الحد، بل طرحت الفكرة في إحدى مجموعات واتساب غير رسمية كنت أحد مشرفيها، وواضع لائحتها التنظيمية، وهناك تلقى المقترح تفاعلا كبيرا، فتم الاتفاق على تنظيم دورة تدريبية ذاتية لانتاج الكمبوست في أبين وعلى نفقة الأعضاء، مع فتح باب التبرع، وتشكيل لجنة تنسيقية للإشراف على المشروع.
ومع استمرار الحراك، قمت بنشر رغبتنا في جهة علمية تتبنى التدريب وتمنح شهادات للمشاركين، فاطلع على المنشور الدكتور المهندس ثابت العزب، رئيس ومؤسس الجمعية الوطنية للبحث العلمي، الذي تواصل معي وأبدى استعداد الجمعية لتبني المشروع. ورغم تردد اللجنة في البداية بسبب البعد الجغرافي للجمعية عن موقع التدريب، استطعت أن أُقنعهم بأهمية هذه الرعاية النوعية، وتم تنسيق لقاء رسمي بمكتب الجمعية في ديوان جامعة عدن، وكانت النتائج مذهلة.
فقد تبنت الجمعية إقامة دورتين تدريبيتين متزامنتين دورة واحدة، وتكفلت بمعظم جوانب التنفيذ؛ بل وقدمت محاضرات علمية عالية المستوى، وتحولت الدورة من مبادرة شعبية عفوية إلى تدريب منظم له حفل افتتاح وختام، ونفذ بكفاءة عالية.
وكان أداء المدرب المهندس باضاوي مميزا، حيث بسط المعلومات بدقة واحتراف دون إخلال، غير أن المؤسف أن بعض المتدربين لم يحرصوا إلا على الشهادة، في حين حرصت فئة قليلة - كنت بحمد الله من بينهم - على الفهم والتطبيق، وخرجنا بخبرة عملية تضاف إلى الخبرة النظرية التي كنت أكتنزها، مرفقة بشعور الطمأنينة التي اعتبرها أهم ما خرجت به.
وبعد انتهاء التدريب، بدأ الجادون في إنتاج الكمبوست الهوائي فعليا، وظهرت نتائج مذهلة فاقت ما كنا نتصور! إذ ثبت أن الكمبوست الهوائي يتفوق على الأسمدة الكيماوية، ليس فقط في تغذية النبات؛ بل الأهم في تحسين بنية التربة واستعادة خصائصها الحيوية التي تتدهور بفعل الأسمدة الكيميائية.
ولم يتوقف الجهد عند هذا الحد، فقد بادرت الجمعية الوطنية مجددا بتنظيم دورة تدريبية أخرى في دلتا تبن بمحافظة لحج، بالتعاون مع كلية ناصر للعلوم الزراعية ومكتب الزراعة، وكنت أحد المدربين العمليين فيها. وتم إنشاء مجموعة واتساب خاصة بالتدريب لمتابعة النقاش والإجابة على التساؤلات، وكنت فيها الأكثر تفاعلا بناءً على رصيدي المعرفي والنظري.
ورغم معرفتي بحرمة كتمان العلم، كنت أحيانا أتحفظ وأتجاهل بعض الأسئلة لأسباب شخصية، وتبين لي لاحقا أنني كنت على صواب في تحفظي.
واليوم، أستطيع أن أقول بثقة واطمئنان - لا فخراً - أنني خبير نظري وعملي في إنتاج الكمبوست الهوائي، بفضل الله أولا، ثم بفضل إخلاص وإبداع المهندس باضاوي، وبتدخل الجمعية الوطنية للبحث العلمي التي كان لها الفضل في تحويل الشغف إلى مشروع واقعي نافع للبلاد والعباد.
إن المؤسف حقا أن كثيرا من المختصين في بلادنا لا يزالون يخلطون بين الكمبوست الهوائي واللاهوائي، ويظنون أنهما نوع واحد بطريقتين مختلفتين، في حين أن الحقيقة تؤكد أنهما منتجان مختلفان جذريا، وإن اشتركا في الهدف العام. والأسوأ أن بعض المنتجين للكمبوست اللاهوائي يسوّقونه باسم الكمبوست الهوائي، إما جهلا أو غشا، والمزارع هو الضحية في النهاية.
نعم، للكمبوست اللاهوائي بعض الفوائد، لكنه يتسبب بأضرار طويلة المدى على التربة والبيئة، خاصة إن لم يُنتج بالطريقة السليمة، وقد نشرنا وكتبنا وحذرنا مرارا، ولا ندري مدى تأثير هذا التوعية.
لكننا مستمرون بإذن الله، ولن نتوقف عن التوعية والدعوة لتعميم تجربة الكمبوست الهوائي، حتى تصبح الزراعة اليمنية نموذجا في الاستدامة والنظافة والتطور.
والله تعالى أعلم!
ودمتم سالمين!