هل سمعت بيقظة الموت؟!
تخيَّل مريضا أنهكه العجز، أو غيّبته الغيبوبة أياما وربما أسابيع، ثم يفتح عينيه فجأة، يُنادي أحبّته بأسمائهم، ويطلب جرعة ماء، أو يصوغ وصية أخيرة، قبل أن يعود إلى سكونه الأبدي بساعات أو أيّام! هذه اللحظة العجيبة ــ التي يسميها بعض الأطباء والباحثين الصفاء الأخير أو يقظة ما قبل الموت (Terminal Lucidity) ــ تترك أثرا عميقا في نفوس من يشهدونها، وتطرح أسئلة إنسانية ووجودية لا تُنسى.
هي ظاهرة طبية نادرة لكنها موثّقة منذ القرن التاسع عشر؛ تتصف بعودة الوعي المفاجئة والمؤقتة لدى بعض المرضى قبيل وفاتهم، حتى في حالات متقدّمة من الخرف أو الغيبوبة أو السرطان الدماغي.
قد يتحدث المريض بوضوح، ويستعيد ذكريات قديمة، ويُظهر طاقةً وصفاءً ذهنيا غير متوقع! ثم ما تلبث أن تعود حالته للانحدار نحو الموت.
رغم تعدد النظريات؛ إلا أن يقظة الموت ما تزال من الألغاز العصبية في الطب الحديث. بعض الدراسات تشير إلى حصول نشاط كهربائي غير اعتيادي في الدماغ قبيل الوفاة، ربما نتيجة اندفاع كميات غير معتادة من النواقل العصبية كـ الدوبامين والجلوتاميت، وهو ما يفسّره البعض على أنه محاولة أخيرة من الدماغ للنجاة أو التواصل قبل الانطفاء.
لكن الأطباء يؤكدون أن هذا النشاط لا يعني التعافي؛ بل كثيرا ما يكون مؤشرا على قرب النهاية.
قد تدوم يقظة الموت دقائق، أو تمتد لساعات، وفي بعض الحالات النادرة قد تستمر يوما أو اثنين.
من مظاهرها: وضوح الكلام، طلب طعام أو شراب، تذكّر مواقف قديمة، أو رغبة في رؤية الأحباب وتوديعهم.
ومن المهم أن يدرك الأهل أن هذه اللحظة ليست بوادر شفاء؛ بل أقرب إلى هدوء البحر قبل الغرق.
ورغم غياب نصّ شرعي صريح يصف هذه الظاهرة؛ إلا أن جوهرها لا يتعارض مع التصور الإسلامي للفتن والرحمات قبيل الموتذد؛ فقد تكون هذه اللحظة رحمة من الله ليختم بها العبد حياته بتوبة أو وصية أو ردّ مظلمة، وقد تكون فتنة يُختبر بها صدق القلب وثبات اللسان؛ لذلك يقول الحسن البصري: "ما خُتم للعبد بخيرٍ إلا كانت تلك ساعته خير ساعاته".
وعلى أهل المستيقظ هذه اليقظة:
- تذكيره بلطف بالشهادة؛ لا بالإلحاح أو الضغط؛ بل برفق ورحمة.
- سؤاله عن ذمّته: هل عليه دين؟ هل له وصية؟ هل عنده أمانات للناس؟
- الإنصات باهتمام: فقد تكون كلماته الأخيرة شديدة الأهمية، دينية أو إنسانية.
- تهيئة الجو الإيماني الهادئ: بقراءة القرآن؛ لا سيما الآيات التي تبث الطمأنينة والسكينة، وذكر الله برفق دون رفع صوت أو إثارة قلق. وقد ورد حديث: «اقرؤوا على موتاكم يس»، إلا أن العلماء اختلفوا في تصحيحه، فمنهم من ضعّفه، ومنهم من حسّنه؛ لذا فقراءة القرآن عموما عند المريض مستحبة بلا خلاف.
إن يقظة ما قبل الموت ليست مجرد لحظة طبية؛ بل هي فرصة إيمانية وإنسانية عظيمة:
- للتصالح مع الله، بالتوبة والنطق بالشهادة.
- للتصالح مع الناس، بطلب العفو وردّ المظالم.
- للتصالح مع الذات، بكلمة أخيرة أو وصية خالدة.
وهي فرصة لأهله ليحضنوه، ويستودعوه الله، ويصلّوا له، ويدعوا له بحسن الخاتمة.
يقظة الموت ومضة صفاء، لا تُرى في كل الناس؛ لكنها حين تقع؛ ينبغي أن تُؤخذ بجدية ورحمة وطمأنينة؛ فإن رأيتها في قريبك؛ فلا تُفوّت لحظة الوداع. وإن رزقك الله بها في نفسك؛ فاجعلها جسرا إلى التوبة، وردّ الحقوق، وختم الحياة على خير.
"اللهم اجعل خير أيامنا خواتيمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير لحظاتنا ساعة نلقاك فيها راضين مرضيين".
وأطال الله أعماركم في طاعته!
ودمتم برعايته!