العودة إلى المربع الأول..

في خضم ما نعيشه اليوم من أزمات متشابكة ومتراكمة، يغدو الحديث عن “الفساد” وكأنه التفسير الشامل الوحيد، لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. إن الفساد ليس سوى وجه من أوجه الأزمة، أو عرض من أعراض مرض أعمق يتغلغل في مفاصل الفكر والأخلاق والهوية الوطنية. لقد أصبحت الأزمة لدينا شاملة ومركبة، تضرب في عمق البنية الثقافية، وتُفكك ما تبقى من تماسك اجتماعي وسياسي.

منذ وقت ليس بالقصير، كنا نحذر وننبه من قدوم أزمة، لكنها لم تكن أزمة مفاجئة، بل نتيجة مسار طويل من الشعارات الفضفاضة، والعدمية الفكرية، والانغماس في مهاجمة الآخر بدلًا من مواجهة الذات. أدمنّا الصراعات العبثية، وارتفعت أصواتنا بشعارات لا تملك مضمونًا ولا حاملاً واقعيًا أو سياسيًا قادرًا على تحويلها إلى مشروع فعلي.

لقد تخلينا عن العقل لصالح ردود الأفعال، واخترنا طرقًا مسدودة ظنًّا منا أنها طرق الخلاص، لنفاجأ اليوم بأننا في قلب الفوضى: فوضى أخلاقية، فكرية، مؤسساتية، وحتى على مستوى الوعي العام.

إن التدهور الذي نشهده في القطاعات كافة – من التعليم إلى الاقتصاد، ومن السياسة إلى الثقافة – لم يأتِ من فراغ، بل من الانفصال المزمن بين ما نرفعه من شعارات، وما نملكه من أدوات. كثيرون منّا باتوا يعيشون في وهم الإنجاز والتفوق، بينما الواقع ينهار تحت أقدامهم.

فما الحل إذن؟
الحل ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب شجاعة الاعتراف والقدرة على التراجع، العودة إلى المربع الأول ليست خسارة، بل خطوة ضرورية لإعادة التوازن، نحن لم نصل بعد إلى نقطة اللاعودة، ولا يزال لدينا متسع من الوقت والعقل لننقذ أنفسنا ووطننا، علينا أن نقف أمام المرآة، ونسأل أنفسنا أين أخطأنا؟ ماذا نريد؟ وإلى أين نتجه؟

كل مشروع سياسي أو اجتماعي أو وطني يجب أن تكون غايته تحسين واقع الناس، لا المزيد من تحميلهم ما لا يطيقون.
إن لم نستطع رفع معاناتهم، فلا أقل من ألا نزيدها بشعارات لا تنتمي إلى الواقع.

لقد أغرقنا الوطن في دوامة من الأزمات، وصرنا كمن يركض وراء أزمة جديدة ليهرب من سابقتها. نحتاج الآن إلى وقفة صادقة مع الذات، إلى عقلانية في التقييم، وإلى التخلي عن العناد باسم “التقدم” ونحن نتقهقر.

الفضيلة اليوم، أن نعترف بأننا بحاجة لإعادة ضبط الذات تجاه الآخرين والوطن