الحلقة الثانية من رحلتي إلى تركيا.. الدولة والسياسة الرومانسية

منذ عام 2003 وحتى عام 2010، تبنت تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، وبتوجيه فكري واستراتيجي من الفيلسوف والسياسي البارز أحمد داود أوغلو، سياسة خارجية تُعرف باسم “صفر مشاكل مع الجيران”. وقد مثّلت هذه السياسة تحولًا جذريًا في رؤية أنقرة لمحيطها الإقليمي، إذ سعت إلى إعادة تموضعها في قلب العالم العربي والإسلامي، انطلاقًا من قناعة داود أوغلو بأن هذا المشرق هو العمق الاستراتيجي الطبيعي لتركيا.

تستند هذه الرؤية إلى أن تركيا ليست مجرد دولة محورية تقع عند التقاء ثلاث قارات (أوروبا وآسيا والشرق الأوسط)، بل إنها تحمل إرثًا حضاريًا وروحيًا يربطها تاريخيًا وثقافيًا بالعالم العربي، وبخاصة في ظل وجود المقدسات الإسلامية والثروات والنزاعات الكبرى في هذه المنطقة. هذا الإدراك أعاد لتركيا دورًا إقليميًا فاعلًا، بعيدًا عن الانكفاء الذي فرضته عليها سياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ومع اندلاع الثورات العربية في 2011، واجهت السياسة الخارجية التركية تحديات حقيقية، إذ دخلت أنقرة في خلافات حادة مع أنظمة سياسية في مصر وسوريا والعراق وليبيا، ما أدى إلى تراجع مؤقت في شعبيتها ونفوذها الإقليمي. ومع ذلك، استطاعت تركيا تجاوز العديد من هذه العقبات، لا بالقوة العسكرية فقط، بل عبر أدواتها الناعمة والدبلوماسية، وهو ما جعلها -رغم الصعوبات- واحدة من أكثر الدول فاعلية وتأثيرًا في الشرق الأوسط.

لقد تعرّضت تركيا لمحاولات إضعاف عديدة، سواء عبر المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، أو عبر حرب اقتصادية شرسة، لكنها استطاعت الصمود بفضل تماسك مؤسساتها وبدعم من بعض الدول الحليفة مثل قطر، التي وقفت موقفًا واضحًا في دعم الحكومة التركية. ويعتز الأتراك كثيرًا بهذا الموقف الذي يعتبرونه تضامنًا عربيًا صادقًا.

أما فيما يتعلق باتهامات “العثمانية الجديدة”، فإن هناك فهمًا مغلوطًا لهذه السياسة. فتركيا اليوم لا تسعى إلى إعادة فرض الهيمنة العثمانية السياسية، بقدر ما تسعى إلى استثمار إرثها الحضاري والثقافي لتعزيز نفوذها الناعم في العالم الإسلامي. وهذا ما يفسّر انتشار الطلبة من دول مثل الصومال والسودان واليمن وليبيا والعراق في المدارس والجامعات التركية، ضمن مشروع استراتيجي يستهدف تأهيل جيل جديد يرتبط بثقافة تركيا وقيمها.

ورغم وجود تحديات داخلية تتعلق بالتعددية العرقية والدينية، وعلى رأسها المسألة الكردية، إلا أن الدولة التركية تؤمن بأن السبيل الأمثل لضمان استقرارها هو الحفاظ على نظام حكم مركزي قوي وديمقراطي في الوقت نفسه. وقد أثبت هذا النهج قدرته على استيعاب التحديات ومواصلة مسيرة الصعود، حيث باتت تركيا تُعدّ اليوم قوة إقليمية وازنة، لها كلمتها في ملفات سوريا، وليبيا، والعراق، والبلقان، بل وحتى في آسيا الوسطى.

إن تركيا تسير بخطى واثقة نحو توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري، وقد خطفت الأنظار من أوروبا التي تعاني من انقسامات داخلية. وإذا ما استمرت أنقرة في هذا المسار، فإنها مرشحة لأن تكون في المستقبل القريب أحد أبرز اللاعبين الدوليين.