طب القلوب المنسي
في زحام الحياة اليومية، وضجيج الأزمات، وانشغال الناس بمظاهرهم ومادياتهم، ضاع خُلق عظيم، وعبادة رقيقة، لا تحتاج وضوءا ولا سجادة؛ بل تحتاج قلبا حيّا ولسانا ليّنا... إنه جبر الخواطر. تلك النفحة الإلهية التي لا يعرف سرّها إلا من جُرحت روحه ذات يوم؛ فجاءه من يربت عليه بكلمة، أو يبتسم له بلطف، أو يسند قلبه المتعب بدعوة صادقة.
لقد عني الإسلام بهذا الخُلق عناية فائقة، وجعل جبر الخواطر من أعظم القربات. يكفي أن نتأمل كيف خاطب اللهُ نبيَّه ﷺ ليجبر خاطره في مواطن شتّى من القرآن؛ مثل قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ [الضحى: ٣]، وقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٦]؛ فكان القرآنُ دواءَ الحزن، وعلاجَ الكسرِ، وربّتةَ الربّ على قلبِ الحبيب ﷺ.
وفي السنة، نجد رسول الله ﷺ يمارس جبر الخواطر عمليّا، لا وعظا مجردا. في يوم رأة امرأةٌ تقف عند قبر تبكي، فمرّ بها ﷺ وقال لها: «اتقي الله واصبري». لم يوبّخها، ولم يُحرجها؛ بل دعاها للثبات بلُطف ورحمة. وفي يوم آخر، واسى طفلا مات عصفوره، فقال له ممازحا: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟»؛ جابرا لخاطره بما يناسب سنَّه ومشاعره.
وليس هذا الخُلق مجرّد فضيلة فردية؛ بل هو ركيزة لبناء مجتمع صحيّ نفسيّا وعاطفيّا؛ فالدراسات النفسية الحديثة — ومنها دراسة نُشرت في "المجلة الأمريكية لعلم النفس الإيجابي" (2021)، أثبتت أن التصرفات اللطيفة كالدعم العاطفي والاستماع والتفهم، ترفع من معدّل هرمون "السيروتونين"، فتُعزز الاستقرار النفسي وتقلل معدلات الاكتئاب والقلق؛ بل إن علماء النفس يشيرون إلى أن جبر الخواطر يُعد من أقوى أدوات ترميم العلاقات الأسرية والزوجية والتربوية؛ لما له من أثر في إشعار الإنسان بالأمان والانتماء والتقدير.
وقد أدرك الصحابة والسلف هذه القيمة الوجدانية العالية؛ فكانوا نماذج مضيئة في هذا الفن. فهذا أبو بكر الصدّيقُ رضي الله عنه، يُقدِّم عمر وأبا عبيدة ليُبايَعا بدلا منه؛ حرصا على مشاعرهم، ثم يقول للناس: "ولّيت عليكم ولست بخيركم". وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يحمل الطعام بنفسه لأرملة في ظلمة الليل؛ قائلاً: "ثكلتك أمك يا عمر! هل يُحاسَب عنهم غيرك؟".
وجبر الخواطر لا يكون فقط بالمال؛ بل قد يكون بكلمة، أو ابتسامة، أو حتى صمت حكيم. قال ﷺ: «الكلمة الطيبة صدقة»، وقال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة». بل يكفيك أن تكفّ أذاك، ففي ذلك جبر. كما قال الحسن البصري: "كفّ الأذى جبر، كما أن بذل الخير جبر".
وهذا الخلق لا يقتصر على الغير؛ بل ينبغي أن يشمل النفس أيضا. فإذا انكسر قلبك؛ فلا تتركه يُنْهَك؛ بل اجبره بذكر الله، وأحِطْه بأمل في الفرج، وقل كما قال يعقوب: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّي وَحُزْنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾.
ولمن أراد أن يتقن فنّ جبر الخواطر، فليُربِّ نفسه على التواضع، وحُسن الإصغاء، وكتمان النقد، والمبادرة بالكلمة الطيبة، والستر الجميل، والدعاء للناس بالخير؛ بل ليجعل له هدفا يوميّا: "جبر خاطر واحد كل يوم"، وليكن ذلك دينا بينه وبين الله.
وليتذكّر أن الجزاء من جنس العمل؛ فمن جبر خواطر الناس؛ جبر الله خاطره، ومن فرّج عن غيره؛ فرّج الله عنه؛ قال ﷺ: «من نفّس عن مؤمنٍ كربة، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة».
فيا مَن تقرأ هذه الكلمات! لا تستهِن بجبر الخواطر؛ فقد يكون هو العبادة التي تُدخلك الجنة، وهو الصدقة التي تُطفئ غضب الرب، وهو الذِّكر الذي يُحيي قلبك، وهو المفتاح الذي تُصلح به ما فسد من عُمرك؛ فابدأ اليوم، وكن جابرا للقلوب؛ لا كاسرا لها.
وفق الله الجميع لجبر الخواطر!
ودمتم سالمين!