وادي يهر: شريان يافع الأخضر وحكاية الأرض والإنسان
بقلم: حسن الكنزلي
في جنوبي اليمن؛ حيث تحتضن جبال يافع أراضيها بجبال شاهقة ووديان عتيقة، ينبثق وادي يهر بوصفه واحدا من اللآلئ الطبيعية النادرة — وادي يجمع بين خضرة الأرض، تاريخ الأجداد، ووجدان الإنسان. في هذه المقالة نأخذك في جولة معرفية وشاعرية عبر أودية يهر، أرض البنّ والرمل والصخور، أرض الناس والأحلام؛ لنعرفه كما هو: حاضرا في الجغرافيا، متأصلا في الذاكرة، نابضا في قلوب أبنائه.
وادي يهر يمتد بين سلسلة جبلية شاهقة، من سفوح منطقة "نقيل الخلاء" مرورا بمناطق عدة حتى أقاصي منطقة «وطن».
يتخلله عدد من الشعاب والوديان الفرعية مثل ضيك، حرضة، يسقم، الحفر، قُود لعصار، مورة، وشعاب أخرى — مناطق مثل بهروت، حلحلة، بذيد، رمة، حبيل إشحاط وغيرها.
جوانب الوادي وسفوح الجبال المحيطة به مكسوة بمدرجات زراعية، حيث الأرض تميل أحيانا للحدبة أو الانحدار وتُستثمر كل مساحة صالحة للزراعة.
مناخ الوادي يختلف بحسب الارتفاع: في الصيف يشيع الاعتدال، أما في فصل الشتاء فيميل إلى البُرودة المعتدلة، مع هطول أمطار غالبا في موسم الصيف.
وهذا المناخ — إلى جانب تضاريسه المتنوعة — منح وادي يهر أرضا خصبة وفضاء ملائما للحياة الزراعية والسكن الموزع بطريقة تتناغم مع الطبيعة.
منطقة وادي يهر اشتهرت عبر عقود بزراعة شجرة البن — البن اليافعي — التي أضفت على الأرض خضرة وطيب رائحة، وجلبت لسكان الوادي منافع ملموسة.
زراعة البن كانت تمتد في مختلف قرى ومناطق الوادي — من مناطق عليا، وسطى، وصولا إلى السفلى: في أماكن مثل “الحربي، أسطلة، مورة... وشعاب أخرى”.
لكن منذ التسعينات، ومع انخفاض موارد المياه؛ جَفّت بعض الآبار ونضبت، فتعثرت الزراعة، وهُجرت كثير من الأشجار، وتدهورت حالة الزراعة بشكل عام.
خسارة البن كانت خسارة للناس؛ أسر عديدة غادرت، وأرياف تفرّغت من سكانها، في حين بقيت البيوت الحجرية تذكارا لعصر كان فيه الوادي يزهو بالزرع والخضرة.
اليوم ثمة دعوات — من أبناء يافع ذاته — لإعادة إحياء زراعة البن في وادي يهر. بادرة تنطوي على أمل، استعادة للكرامة الزراعية، وربما بداية جديدة لنهضة بيئية واقتصادية؛ لو تعاطت معها الجهات المعنية بحسّ من المسؤولية.
في مدخلك إلى أي قرية في وادي يهر أو في مركز مديرية السويداء (عاصمة يهر)، يلفتك أولا استقبال الناس الحار، وطيبة النفوس، وكأنّ الأرض نفسها قد منحت أهلها قلبا واسعا. هكذا عُرفت يهر: بإنسانها أكثر مما بجغرافيتها!
ولأهل وادي يهر — على عاداتهم وتقاليدهم — خصوصية في أدوارهم الاجتماعية؛ في مناسباتهم، في طريقة تعاملهم مع الغريب والقريب. هناك — في بيوت حجرية خشنة أحيانا — تجد دفء الإنسانية، كرم الضيافة، وصدق البساطة.
لكن مع تحديات الجفاف والهجرة إلى المدن؛ بحثا عن الماء أو فرص العيش، تآكل النسيج الاجتماعي جزئيا: قرى خلت، وبيوت هجرت. تلك الهجرة ليست مجرد نزوح؛ بل فصل عن الأرض، وقطع جذور عن تاريخ وثقافة.
ومع ذلك — إذ تلوح مبادرات لإعادة إحياء زراعة البن — هناك رجاء أن يعود الإنسان إلى الأرض، تعود القرى إلى الحياة، وتعود البسمة إلى الوجوه.
يافع العليا — الإقليم الذي ينتمي إليه وادي يهر — معروف بتنوع تضاريسه ما بين هضاب، جبال، وأودية.
الوادي — مع أوديته الكثيرة — يشكل جزءا من النسيج الطبيعي ليافع: تضاريس وعراقة، طبيعة تُجسّد صمود الإنسان، وتاريخه على هذه الأرض.
تراث العمارة اليافعية — حجرية، متينة، متناسبة مع طبيعة الأرض — يظهر في بيوت القرية وسوقها وطرُقها، وكأن الماضي يدعوك لأن تنظر إليه بانبهار! كيف للإنسان أن يبني ويزرع ويتعايش مع قسوة الطبيعة — ثم يجعل منها بيتا للإنسان يجمع بين الأمان والجمال؟ !
وادي يهر إذن، ليس مجرد واد على خريطة. إنه صفحة من تاريخ يافع — من تاريخ اليمن — صفحة كُتب فيها العرق، الأرض، الحجر، والبنّ... صفحة تُروى بإصرار على الحياة رغم الهموم.
وادي يهر اليوم — وهو يئن من حرمان الماء وهجران الزرع — يحتاج لمن يلتفت إليه؛ يحتاج إلى مشروع زراعي يروّض الجفاف، يحتاج إلى تنمية بيئية واجتماعية، يحتاج إلى استعادة الكرامة التي سلبها الجفاف والإهمال.
إحياء زراعة البن ليس وحده هدفاً؛ بل هو استعادة ذاكرة، إعادة رابط بين الإنسان والأرض، تجديد حياة كانت نابضة بالخضرة.
وأيضا — عبر الاهتمام بالثقافة، بالتراث، بالبيئة — يمكن أن يتحول وادي يهر إلى رمز للصمود، إلى رسالة لكل من تسول له نفسه؛ أنّ على الإنسان أن يحافظ على أرضه، على جذوره، على شجرته، على بيته...
إن زرت وادي يهر يوما — بين المدرّجات، بين البيوت الحجرية، تحت ظلال أشجار البنّ، بنسمات رياح خفيفة قادمة من جباله — ستحس بأنك تدخل عالما مختلفا! عالم لا يعرف الإسهاب في الزينة؛ لكنه غني بقيمة الإنسان، بعراقة الأرض، بصدق الحياة!
وادي يهر ليس مجرد موقع جغرافي؛ بل هو حالة إنسانية، يزينها الجبل، يستظل بها الطير، ويتغذّى منها الإنسان؛ فلتكن دعوة لكل يافعي — ولكل من عشق الأرض اليمنية — أن يساعد على أن يعود هذا الوادي إلى أمجاده؛ لأنّ أرض يافع — كما يقولون — «تسبق عهدها»، وهي تستحق أن يُكتب لها دوام الحياة.


