شجرة الغريب تَمَيُّزٌ بين مثيلاتها وتَمَيُّزٌ بين أمثالنا
مرة أخرى ونعود للكتابة حول شجرة الغريب التي تقف في تعز – اليمن – شامخة كواحدة من أقدم وأضخم أشجار الباوباب في العالم؛ لكنها رغم ذلك تظل منسية بين أعين العلماء والمهتمين بالبيئة. هذه الشجرة ليست مجرد كائن نباتي عملاق؛ بل سجل حيّ يعانق التاريخ، ويحمل في جذوره أسرارا ثقافية وأسطورية لم تفسر بعد. وفي خضم موجة الانهيارات الغامضة التي ضربت أقدم أشجار الباوباب على مستوى العالم؛ فقدت شجرة الغريب جزءا كبيرا من حضورها الفعلي، ما يطرح تساؤلات هامة عن مستقبل هذا الإرث الطبيعي الفريد. وما يميز شجرة الغريب عن غيرها:
- ليس فقط ضخامة محيط جذعها الذي تصل إلى 32.5 مترا؛ بل أيضا وجودها في سجل تاريخي موثق منذ أكثر من ألف عام، في كتاب "صفة جزيرة العرب" للهمداني (970م). وصف الهمداني ظل الشجرة بأنها "تظل مئة رجل"، ما يدل على ضخامة وشموخ هذه الشجرة منذ آلاف السنين. هذا التوثيق التاريخي يجعل شجرة الغريب فريدة على مستوى العالم؛ إذ لا توجد شجرة أخرى من أشجار الباوباب تم ذكرها بهذا القدر من القِدم والدقة في مصدر مكتوب.
- بمحیطها الضخم، تحتل شجرة الغريب مكانة نادرة بين أشجار الباوباب العالمية، حيث يتجاوز محيط جذعها معظم أشجار الباوباب في أفريقيا ومدغشقر، ولا تتفوق عليها سوى ثلاث أو أربع أشجار عملاقة فقط، مثل شجرة "غلينكو" في جنوب أفريقيا. رغم ذلك؛ لم تُجرَ عليها الدراسات العلمية الحديثة، ولم تُخضع لتحاليل الكربون المشع لتحديد عمرها بدقة، ما يجعلها لغزا بيئيا يستحق البحث.
- على عكس أشجار الباوباب في أفريقيا التي تحولت إلى معالم بيئية وسياحية عالمية، لم تحظَ شجرة الغريب في اليمن بالرعاية أو الدراسة، بل ظلت مغيبة عن الأضواء العلمية، واستخدمت كمكان عابر لتناول القات والتقاط الصور، دون أي حماية رسمية أو اهتمام بيئي. هذه المفارقة تعكس إهمالا ثقافيا وبيئيا مقلقا تجاه هذا الإرث الطبيعي الهائل.
- تغلف شجرة الغريب طبقة من الأساطير والحكايات الشعبية، قصة "أبو كلبة" و"جرجوف"، التي تحمل أصداءً من تراث الباوباب الأفريقي، مما يدل على تواصل ثقافي عابر للقارات. كما يشير اسمها القديم "كُلْهُمَه" إلى ارتباط لغوي وثقافي بكلمة "كنجلوا" الأفريقية، التي تعني "الشجرة التي تزأر"، ما يجعل الشجرة أكثر من مجرد شجرة؛ إنها رمز حي يعكس تفاعل الإنسان مع بيئته عبر العصور.
- في أبريل 2025، انهارت شجرة الغريب بشكل مفاجئ، في ظاهرة غامضة ترافقت مع انهيارات أخرى لنخبة من أقدم أشجار الباوباب حول العالم خلال العقود الأخيرة. لم ينجح العلماء حتى الآن في تحديد الأسباب بدقة، حيث استبعدت بعض الدراسات تأثير تغير المناخ فقط كعامل وحيد، مما يفتح المجال لبحث عوامل بيئية أو بيولوجية أخرى.
- تُظهر مقارنة بين شجرة الغريب وأشجار الباوباب الأفريقية فجوة كبيرة في الاهتمام العلمي والحماية. ففي أفريقيا، تحظى أشجار الباوباب ببرامج بحثية ومحميات طبيعية مخصصة، تُشجع على التكاثر والدراسة المستمرة، ما يضمن استدامتها وتحولها إلى معالم بيئية وسياحية ذات قيمة اقتصادية وثقافية. في المقابل، تمثل شجرة الغريب حالة إهمال فريدة من نوعها في اليمن.
- رغم مكانتها التاريخية والبيئية؛ تم التعامل مع شجرة الغريب في تعز على أنها مجرد جذع ضخم عابر، فاقدة للرعاية الرسمية والوعي الشعبي، ما يكشف عن خلل واضح في التعامل مع الموارد الطبيعية والتراث البيئي المحلي.
- مع انهيار الشجرة الرئيسية وبقاء ثلاثة أشجار صغيرة فقط، تتعرض هذه الكائنات الحية المدهشة لخطر الانقراض. تتطلب حماية هذه الأشجار خطوات فورية تشمل التحري العلمي الدقيق، والحفاظ على الشتلات الصغيرة، وتفعيل برامج التوعية البيئية والثقافية.
- تظل شجرة الغريب رمزا حيا لمزيج من التاريخ والبيئة والأسطورة، وأي إهمال إضافي قد يعني خسارة لا تعوض للإنسانية. من الضروري أن تنطلق جهود علمية لتحديد عمر الشجرة بدقة، وفهم أسباب انهيارها، بالإضافة إلى حماية الأجيال القادمة منها. ولا يقل أهمية توثيق التراث الشفهي المتصل بها، وتحويلها إلى موقع سياحي وطني يحفظ هذا الإرث ويحتفي به.
شجرة الغريب ليست مجرد شجرة قديمة؛ بل هي صفحة تاريخية حية، تنبض بالحياة رغم ما تحمله من غموض وألم. إنها دعوة صادقة للحفاظ على كنوز الطبيعة والتاريخ، قبل أن يختفي ظلها إلى الأبد.
نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ موارد بيئتنا!
ودمتم سالمين!