حين تخرس القيم وتعلو أصوات الهمجية
في زمن يضج بالصراخ، ويضيق بالرحمة؛ تتقدّم الهمجية لتحتل مكان العقل، وتتمدد حتى تصير سلوكا يوميّا مألوفا؛ نراها في الطرقات، نسمعها في الألسنة، ونشهد آثارها في الشاشات. وحين تخرس القيم، ويتراجع الضمير؛ تصبح المجتمعات حقلا للعنف، ومرعى للغضب، وساحة يتصارع فيها الناس بلا رادع ولا مرجعية.
لقد كرّم الله الإنسان حين قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾؛ ولكن هذا التكريم ليس امتيازا فقط؛ بل أمانة ومسؤولية. وإذا خان الإنسان هذه الأمانة؛ فإنه لا يهبط فقط إلى منزلة الحيوان؛ بل يتجاوزها إلى وحشية أشد.
والهمجية اليوم تظهر في صور متعددة:
- في الألفاظ؛ تُقال الشتائم بلا خجل، والتخوين يُطلق بلا بيّنة، والتنمر يُمارس ببرود في كل مساحة مفتوحة.
- في الأفعال؛ من قتل وتنكيل وتعدٍّ على الضعفاء، تحت مسميات "الرجولة" أو "الكرامة" أو حتى "الدين".
- في العالم الرقمي؛ حيث يُغتال الناس معنويا، وتُشوَّه السمعة في تغريدة، وتُفتح ساحات سُخرية تؤذي النفوس وتحطّم الشخصيات.
- باسم الدين؛ حين يُكفَّر المخالف، وتُستباح الدماء، ويُنسى أن النبي ﷺ وصف الخوارج بقوله: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان».
والنتيجة: مجتمعات تفقد أمنها، وتضيع فيها الثقة، وتنهار فيها القيم. قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ ولذلك قال ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران".
لكن النور لا ينطفئ؛ ففي مواجهة هذه المظاهر القاتمة، تتألق سير الصحابة والراشدين المهديين كمنارات حضارية راقية:
- أبو بكر الصديق واجه الردة لا بهمجية؛ بل بعدل صارم وتفريق دقيق بين المحارب والتائب.
- وعلي بن أبي طالب واجه الخوارج بالحوار أولا، وبضبط النفس، ولم يسفك دما؛ حتى بدأوا بالعدوان.
- عمر بن الخطاب كان شديدا في العدل؛ لا في البطش. حاسب الولاة، وضرب أحدهم لأنه ضرب رجلا دون حق، وقال كلمته الخالدة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟".
ويمكننا أن نحصّن أجيالنا ومجتمعاتنا من الهمجية:
- بالتربية الإيمانية والأخلاقية في البيوت والمدارس والمساجد.
- بإعلاء لغة الحوار بدل الشتائم والانفعال.
- بتطبيق العدل والقصاص المشروع دون تجاوز أو انتقام.
-- بتفعيل دور العلماء والمصلحين والإعلام الأخلاقي النظيف الذي يطفئ نار الفتنة بدل أن يؤججها.
وأخيرا؛ نقول:
- لمن من يغذّي العنف بكلمة: أنت شريك في الجريمة.
- ولمن يبرر القسوة باسم الغيرة على الدين: راجع قلبك، واصدق مع نبيّك.
- ولمن ينفجر غضبا بحجّة الظلم: لا تكن ظالما باسم المظلوم.
ولنستشعر قول الله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾؛ مسؤولون عن كل همسة حرضت، وكل تغريدة شوّهت، وكل سكوت ترك الحريق يتمدد...
وحين تخرس القيم؛ لا تصمت أنت؛ بل كن صوتا للعقل، سفيرا للرحمة، ودرعا يحمي مجتمعه من طوفان الهمجية!
ودمت سالما!