حين تصبح الأنا صنما يُعبد

في زمن صارت فيه الكاميرا مرآة الذات، والمنصّات مَسارحَ للتمجيد، نعيش محنة إنسانية عميقة: داء العُجب ومحنة النرجسية، حيث يتضخم الإنسان في عينه، ويصغر في ميزان الله.

ليس الحديث هنا عن فئة قليلة من الناس؛ بل عن وباءٍ ثقافيّ ونفسيّ يهدد القيم، ويفكك العلاقات، ويدمّر المجتمعات، دون أن يُرى بالعين؛ لأنه يسكن القلوب: تعظيم الذات، وتضخيم "الأنا"، وعبادة الصورة.

في ميزان الإسلام، لا شيء يُسقط الإنسان من عين الله كالعُجب؛ لأنه حجابٌ كثيف بين العبد وربه. قال النبي ﷺ: «وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».

فبينما يرى البعض أن رفع الصوت ورفع الصورة هو الرفعة؛ يرى الإسلام أن الرفعة الحقيقة تبدأ بانكسار النفس لله وتواضعها للخلق.

النرجسي ليس من وُلد نرجسيا؛ بل من غفل عن نفسه، وتربى في أجواء تُغذّي تضخم الذات، وتمجيدها، وتمنع عنها النقد والمحاسبة؛ ولذا، أرشدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي".

لكن من يتقبل النقد في زمن "الإعجاب"؟ ومن يسمع النصيحة في زمن "المتابعة"؟ والجواب عند من عرف أن العُجب عدوّ خفي، يتسلل مع كل مديح، ويكبر في كل مقارنة، ويقوى كلما نظرنا لأنفسنا فوق الآخرين.

والإسلام لم يكتفِ بالتحذير؛ بل قدّم وسائل عميقة وعملية لتربية النفس؛ منها:

- التواضع لله وللناس؛ فلا تنتظر أن تكون فوق الجميع؛ بل تذكّر أنك عبد لله بين عباده، إن تواضعت رفعك؛؛وإن تكبّرت؛ قهرك.

- محاسبة النفس لا تزيينها؛ كما قال السلف: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا".

- الانشغال بعيوب النفس؛ لا بعيوب الناس؛ فالنفس فيها من العيوب ما يغنيك عن فضول النظر في الآخرين.

- الذكر والاستغفار؛ فمن أكثر الذكر؛ ذاب غروره.

- طلب النصيحة وتقبّل النقد؛ لأنها مرآة حقيقية؛ لا مرايا مغشوشة.

- خدمة الناس؛ فمن ذاب في آلام الآخرين؛ نسي أن يعبد نفسه.

من أخطر مظاهر العُجب اليوم، تلك التي تُزيَّن وتُسوق على أنها "حرية شخصية" أو "ثقة بالنفس" أو "نجاح"، بينما هي – في حقيقتها – صنمية إلكترونية حديثة، منها:

- التفاخر المبالغ فيه في وسائل التواصل.

- نشر الصور والمقاطع بحثا عن الإعجاب فقط.

- كثرة "أنا" في الحديث.

- اللهث خلف الشهرة على حساب القيم.

هل تأملت يوما كم مرة قلت "أنا" في منشوراتك؟ وهل سألت نفسك: لو لم يُعجب أحد بصورتي، هل سأستمرّ؟ وهل بقي في قلبك شيء لله؛ أم أن مرآة الناس صارت ربك؟

إن أعظم من فضح النرجسيّة وداواها هو القرآن الكريم والسيرة النبوية؛ ففيها كل معاني التربية القلبية. ومن أراد النجاة في عصر يعبد الصور؛ فليجعل مرآته: القرآن، وليجعل سعيه: وجه الله؛ لا عدسات الناس.

دعِ الكِبرَ فالدنيا صغيرَةٌ

وفيها يموتُ المُعجبُ المغرورُ

كلنا ضعفاء، وكلنا بشر؛ فلا تقتلنا "الأنا"؛ بل لنحيي أنفسنا بصدق التواضع، وحرارة الذكر، وصفاء النية، وحب الخير للناس.

وفقني الله وأياكم!

وأدام لنا السلامة!