المضاربة بالعملات جريمة تلتهم قوت اليمنيين
المال أمانة عظيمة جعلها الله تعالى رزقا وابتلاء؛ فمن أخذه من حلال ووضعه في حقه؛ بورك له فيه، ومن أخذه من حرام؛ مُحقت بركته وصار وبالا عليه. يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾.
والظلم الاقتصادي من أخطر الجرائم؛ إذ يسرق لقمة الفقير، ويطفئ أمل الكادح، ويضعف الأمة بأسرها. وإن كان الربا محرما رغم ما يحققه للبعض من أرباح؛ فإن التلاعب بالعملات وأكل أموال الناس بالباطل أشد خطرا؛ لأنه يضرب قلب الاقتصاد ويصيب الجميع بأضرار مباشرة.
المضاربة في أصلها عقد شرعي مشروع، يقوم على استثمار المال في تجارة حقيقية تحقق النفع للأمة. لكنها حين تتحول إلى مقامرة في أسواق العملات بلا غطاء إنتاجي أو تجارة حقيقية؛ فإنها تصبح مضاربة محرمة، قائمة على التلاعب بالأسعار وخلق أزمات مالية، ليغتني قلة معدودة بينما يدفع ملايين المواطنين الثمن من أقواتهم ومدخراتهم. وقد قال النبي ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار»؛ وهذه المضاربة التي تضر العامة صورة جلية للضرر المحرم.
اليمن اليوم نموذج صارخ لهذه المأساة. انهيار العملة المحلية جعل المال الذي كان يكفي أسبوعا لا يكفي يوما، بينما بقيت الرواتب على حالها، فارتفعت معدلات الفقر والجوع والبطالة. زاد الأمر سوءا حين احتكر السوق المالي قلة من المتنفذين، استولوا على موارد الدولة وحولوها إلى حسابات خاصة، تاركين البنك المركزي بلا سيطرة على النقد. هكذا نشأت "بنوك ظل" تدار للمضاربة بالعملة الأجنبية بعيدا عن أي رقابة أو محاسبة.
والإسلام جاء بحفظ المال وصيانته، ونهى عن بخس الناس حقوقهم أو التلاعب بقيمتها. قال تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، وحذر النبي ﷺ من الاحتكار والغش، وهما في جوهر المضاربة المحرمة بالعملات. وقد أجمع العلماء على أن أي معاملة تضر بالناس أو تفسد الأسواق أو تضعف العملة ظلم محرم شرعا.
وآثار هذه المضاربة لا تتوقف عند أرقام تتغير على شاشات الصرافة؛ بل هي كارثة اجتماعية واقتصادية:
- إفقار الطبقة الوسطى وانهيار القوة الشرائية.
- انعدام الثقة بالعملة الوطنية، ما يفاقم التضخم.
- انتشار الاحتكار وارتفاع الأسعار بشكل جنوني.
- زيادة الفجوة بين الغني والفقير حتى يبنى الثراء الفاحش على أنقاض الجوع الجماعي.
هذه الجريمة ليست نتيجة عجز اقتصادي بقدر ما هي انعكاس لفساد أخلاقي وغياب للرحمة. هي خيانة للأمانة العامة التي أمر الله بأدائها، وتحويل لموارد الأمة إلى لعب قمار مالي.
والحل يبدأ بإجراءات حاسمة، تتمثل في:
- توريد جميع موارد الدولة للبنك المركزي.
- تفعيل الرقابة الشرعية والقانونية على سوق الصرف.
- محاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة.
- تشجيع الاستثمار والإنتاج الحقيقي.
- تعزيز دور العلماء والخطباء في التوعية بخطر هذا الفساد.
إن الله يمهل الظالم؛ لكنه لا يهمله. والمضاربة المحرمة مال حرام، وعاقبتها في الدنيا والآخرة وخيمة، قال ﷺ: «أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به».
إنها دعوة لإيقاف نزيف الاقتصاد اليمني، ورد الأمانات إلى أهلها، وحماية قوت الشعب من جشع قلة جعلت المال غاية والناس وسيلة. فإصلاح الاقتصاد يبدأ بإصلاح الضمائر، والرحمة بالناس قبل الأرباح.
نسأل الله أن يصلح البلاد والعباد! ودمتم سالمين!