القات بين فتوى الأمس وحقيقة اليوم
منذ قرون ظلّ القات مادة مثار جدل بين الفقهاء والأطباء، وبين من رأى فيه مجرد عادة اجتماعية لا ضرر فيها، ومن اكتشف لاحقا أنه وباء خفي يفتك بالأفراد والمجتمعات. واليوم، وبعد أن تكشفت الحقائق الطبية والاقتصادية والاجتماعية، لم يعد النقاش حول القات ترفا فكريا؛ بل صار قضية حياة أو موت لمجتمع بأكمله.
قد يحتج البعض بفتاوى قديمة، كقول الإمام الشوكاني إنه جرب القات ولم يجد له أثرا مفسدا. لكن علينا أن نفهم فتواه في سياق زمنه:
- كان القات محدود الانتشار والزراعة، لا يتعاطاه إلا القليل.
- لم تكن أضراره الطبية والاجتماعية مكتشفة كما هي اليوم.
- كانت البدائل الضارة الأخرى هي الأكثر شيوعا حينها.
إذن، كلام العلماء السابقين لا يُقرأ إلا في ضوء عصرهم ومعارف زمانهم. أما اليوم؛ فقد أصبح خطر القات ظاهرا لا ينكره عاقل.
الدراسات الطبية الحديثة وضعت القات في خانة المواد المدمرة، فالأبحاث تشير إلى أنه:
- يرفع ضغط الدم ويؤدي إلى أمراض القلب والشرايين.
- يسبب قرحة المعدة وأمراض الكبد والأسنان.
- يرتبط بنسبة عالية من سرطان الفم والمريء.
- يسبب القلق والاكتئاب ويضعف التركيز، بل يقود إلى الإدمان.
الأمر لا يتوقف عند الفرد، بل يمتد إلى المجتمع كله:
- أكثر من ثلث دخل الأسرة اليمنية يذهب إلى القات، على حساب الغذاء والدواء والتعليم.
- ما يزيد عن 40% من الأراضي الزراعية مكرسة للقات، يلتهم أكثر من 30% من المياه الجوفية الشحيحة.
- ضياع ساعات العمل والإنتاج بسبب جلسات القات الطويلة، مما يجعله عدوًا صريحًا للاقتصاد الوطني.
القات ليس مجرد "جلسة خضراء"؛ بل سلسلة من المفاسد:
- استنزاف للوقت والمال.
- تعطيل لمصالح الأسر.
- دفع البعض إلى الغش والسرقة والرشوة من أجل تأمينه.
- إضعاف الإنتاج الوطني وتهديد الأمن الغذائي.
وهنا تبرز خطورة بعض من يزينون هذه الآفة باسم الدين، مستندين إلى فتاوى قديمة لا علاقة لها بواقع اليوم. بينما القاعدة الشرعية الكبرى تقول: لا ضرر ولا ضرار. والقات اليوم ضرره أوضح من أن يُدفع.
مكافحة القات ليست مسؤولية فرد واحد ولا مؤسسة واحدة؛ بل مسؤولية جماعية:
- العلماء والدعاة: عليهم أن يبينوا حكم الله بوضوح دون خوف أو مجاملة.
- الدولة: مطالبة بوضع أنظمة رادعة وتشجيع بدائل زراعية واقتصادية.
- الأفراد: واجبهم حفظ صحتهم وأموالهم وأعمارهم.
- المجتمع: عليه أن ينشر الوعي، ويستبدل عادة الهدر بمشاريع تنمية حقيقية.
القات لم يعد مجرد ورق يُمضغ؛ إنه نزيف متواصل للعقول والأموال والأعمار والمياه والأرض. وهو بلاء لا دواء له إلا بالوعي الجمعي والصدق في الفتوى والموقف. إن إنقاذ المجتمع من هذه الآفة يبدأ بكلمة حق، وبشجاعة في مواجهة العادة، وبإرادة جماعية لبناء مستقبل أفضل.
القات ليس قضية شخصية؛ بل قضية أمة. والأمة التي تريد الحياة لا يمكن أن ترهن حاضرها ومستقبلها لأوراق مرة لا تسمن ولا تغني من جوع.
حفظ الله البلاد والعباد!
ودمتم سالمين!