عن «تعز» جرح الوطن وأمل خلاصه..!
بقلم: منصور الصمدي
من كان يصدق أن «تعز» التي طالما اعتبرت منارة العلم والتنوير، وعاصمة اليمن الثقافية، ومصدر التحولات الكبرى التي أنجبت قادة الثورات، وزعماء التيارات القومية واليسارية، ورواد الفكر التحرري - ستصبح يوماً رهينة لجماعتين دينيتين رجعيتين، تقاسمتا جسدها كغنيمة، وتعاملتا مع مواردها وخيراتها كفيد يستأثر به الأقوياء؟! .. أنها مفارقة خطيرة، أن تتحول المحافظة التي كان العقل فيها سيداً، والمعرفة هوية، والحرية ميثاقاً، إلى ساحة يتنازعها ثلة لصوص يتدثرون بشعارات الدين، ويغتالون كل جميل وخلاق فيها.!
مع الأسف ها هي «تعز» التي كانت نموذجاً حضارياً للأمن والسلام، ومهداً للحوار والتعايش، وملتقى لعقول تنويرية أنجبت رواد الفكر والثقافة والسياسة والإعلام في اليمن عامة .. تطوي اليوم عامها العاشر وهي ترزح تحت ثقل الجماعتين .. وبفعل قبائحهما ونزواتهما وأطماعهما أضحت مرتعاً للطغيان والفوضى والإنتهاكات، وملاذاً للتطرف والإرهاب والعنف الذي لا يرحم، وموئلاً للبؤس والأزمات، والأحلام الممزقة.
لم تكن فاجعة إغتيال المناضلة «افتهان المشهري» سوى الصورة الأشد وضوحاً وقسوة وسواداً لحالة الإنحدار التي وصلت إليها «تعز» في ظل هيمنة الجماعتين .. روحها البريئة التي أُزهقت بدم بارد لم تكن مجرد حادثة اغتيال فردية، بقدر ما كانت تجسيد لإنهيار منظومة قيم بأكملها، وإعلاناً أخيراً عن تحول المحافظة إلى ساحة مفتوحة لقتلة مأجورين، وبلطجية مجردين من كل الأخلاقيات الإنسانية.
ما حدث للبطلة «افتهان المشهري» تجاوز حدود أعراف البشر في البشاعة والقبح والتوحش .. إنه بمثابة طعنة نافذة في قلب «تعز» وفي ضمير أبنائها، بل وآخر مسمار في نعش وجهها المدني .. كما أنه في الوقت ذاته بمثابة إنذار مخيف يوحي بأن القادم سيكون أشد قبحاً ودموية، وأكثر رعباً وتجرداً من الإنسانية، في حال بقي الوضع أسيراً لأولئك اللصوص المتلفعين بشعارات الزيف والغدر والاستغلال.
أما الأمر الأشد إيلاماً فهو أن هذه الحادثة المأساوية، التي أبكت كل صاحب قلب وضمير حي، وتركت جرحاً غائراً في وجداننا الجمعي - لم تكن إلا لقطة خاطفة لواحدة من الحلقات الأكثر دموية في سلسلة مترامية من الانتهاكات والفضائع المنظمة والممنهجة التي شهدتها «تعز» طيلة العقد المنصرم، على أيدي أولئك الكهنة والبلطجية، بدءاً بالقتل، والاعتقالات التعسفية، وتلفيق الاتهامات، والنهب، والبسط، والمصادرة، وانتهاء باختطاف واغتصاب الأطفال وتصفيتهم .. والقائمة تطول.
ما يستدعي التفاؤل هو أن «تعز» ورغم خنوعها واستسلامها وصمتها أمام تلك العصابات طوال «عشر» عجاف مضت - تثبت لنا اليوم أنها لا تزال عصية على الكسر والتدجين والتطويع، وأن صمتها عليهم لم يكن سوى اختبار .. وفي الحقيقة ذلك ليس بغريب على محافظة جعلت من العلم والشعر والحركة الثقافية عناوينها الكبرى، وصاغت وعي أجيال من رواد التنوير والفكر والسياسة والإعلام في اليمن عامة .. ذلك لأن إرثها العريق أوسع من أن يطمس، وأعمق من أن يختزل ببضع سنوات من الرعب .. بل إنه سيظل ذاكرتها الحية، ودرعها الصلب الذي ستتحطم عليه كل مشاريع الظلام التي تتغذى على الدماء والأزمات.
الحشود الغفيرة التي تقاطرت بالأمس من أقاصي الأرياف والمناطق والمديريات، والتأمت جميعها في قلب المدينة تهتف من أجل الأمن والسلام، وتطالب بضبط البلطجية والقتلة ومحاكمتهم - أثبتت أن «تعز» ما زالت يقِظة تنبض بالحياة، وأن الملايين من أبنائها ما زالوا ثابتين على مبادئهم، متشبثين بالأمل، يرفضون الإستسلام لليأس، ويصرون على التمسك بروح «تعز» المدنية، مؤكدين عزمهم على مقاومة الاحتلال بالوعي، مؤمنين بأن محافظتهم جديرة باستعادة مكانتها ودورها الريادي، ووهجها كمنارة للعلم والمعرفة من جديد.
غير أن ما يجب أن يعيه الجميع هو أن استعادة «تعز» لوجهها الحضاري، وسلمها الأهلي، وأمنها واستقرارها، لن يتحقق بمجرد القبض على بلطجي ما، أو محاكمة ثلة من القتلة المأجورين - وإنما بانعتاق «تعز» بكل جغرافيتها من قبضة الجماعتين الفاشيتين، اللتين استعبَدتاها وعاثتا فيها فساداً طيلة عقد من الزمن تماماً .. وأنها لن تستعيد مكانتها كرمز للتحضر والتعايش، وعاصمة للثقافة والتنوير، وقاطرة للخلاص الوطني، إلا ببتر يد هاتين القوتين نهائياً من التحكم في مصيرها.
لست من أبناء «تعز»، لكن قلبي عشق هذه المحافظة الاستثنائية بطبيعتها الفيحاء، ومناخها البديع الذي يمنح الزائر سكينة وصفاء منذ عرفتها .. أحببت «تعز» من خلال أهلها النبلاء، المستنيرين، المكافحين والنوابغ الذين تتلمذت خلال دراستي الجامعية على أيدي نخبة منهم، وربطتني علاقة صداقة وزمالة وعمل بعدد كبير منهم طيلة مسيرتي العملية، وخلال ذلك اكتسبت الكثير من خصالهم وحتى مصطلحاتهم، حد أن البعض ممن لا يعرفونني صاروا يعتبرونني من النظرة الأولى «تعزياً».
تعلمت، أنا وغيري كثيرون، من أبناء هذه المحافظة التي سبقت زمانها، أن المعرفة طريق النجاة، وأن بالعمل والجد والمثابرة والإصرار فقط يتحقق النجاح .. وأن الحرية والكرامة ليستا شعارات، ولا عطايا، وإنما حقوق أصيلة تولد مع الإنسان لا تقبل التجزئة ولا تحتمل المساومة .. كما رأيت فيهم صورة اليمن التي لطالما حلمنا بها .. يمن العقل المتقد، والعطاء المتدفق، يمن الحرية والكرامة والمدنية والتعايش الخلاق.
كما أن أحداث التاريخ ومحطات اليمن الكبرى نقلت لنا أن «تعز» لم تكن يوماً كغيرها من المحافظات العادية، بل إنها كانت دائماً الاستثناء، وذلك بفضل أدوار وبطولات وتضحيات أبنائها الذين حملوا على عاتقهم شعلة التنوير، ومواجهة الإستبداد، ولنا في حضورهم البارز خلال ثورتي (1948 - 1962) خير دليل، حيث تقدموا الصفوف، وجعلوا من «تعز» خزاناً بشرياً وفكرياً يغذي الثورة ويشد من أزرها، ووحدهم لم يكتفوا بالمواجهة المسلحة وحسب، بل جمعوا بين الفكر والنضال، وبين القلم والبندقية .. لذلك فإن وجعنا على «تعز» ليس وجع الغرباء، بل وجع المحبين الذين يرون في جراحها انعكاساً لأوجاعهم، مؤمنين بأن في خلاصها خلاصاً لليمن بأسره.
ثقتنا تتجاوز المدى بأن التيار المدني المسالم في «تعز»، الذي احتشد بالأمس في مختلف ميادينها وساحاتها، وغيرهم من الساسة والمفكرين والأدباء وقادة الرأي المنتشرين في شتى بلدان العالم، يدركون بحس ووعي عميق حجم الجراح التي أثخنت جسد محافظتهم، وطبيعة العلل التي أسقمت روحها، أكثر من أي أحد آخر .. وأنهم وحدهم قادرون على مداواتها ونفض غبار الكهانة والولاءات والعصبيات التي مزقتها، وحمايتها، وتصحيح الصورة المعتمة التي بدأت تتشكل في الذهنية العامة عنها، وإعادتها إلى طريق النهوض من جديد.
السلام والطمأنينة لروح الفقيدة «افتهان المشهري» وكل من سقط في شوارع «تعز» ظلماً .. والخلود لأحلامهم المؤجلة .. والصبر والسلوان لكل «التعزيين» الأنقياء الذين يعلموننا دوماً دروساً جديدة في معاني الصمود والتحدي والإصرار وانتزاع الحقوق والحريات .. واليقين لنا جميعاً بأن فجراً جديداً سيولد لـ«تعز» الحبيبة ولـ«اليمن» عامة قريباً.