اليمن في ظل هندسة إقليمية جديدة.. من ساحات الداخل إلى خرائط البحر  الأحمر

تعيش اليمن لحظة تتجاوز في عمقها حدود المشهد السياسي الداخلي، لتندرج في سياق أوسع يتمحور حول إعادة تشكيل معادلات النفوذ الإقليمي والدولي في البحر الأحمر، وممراته الحيوية، وسواحل القرن الإفريقي. ففي هذا الفضاء الجيو-اقتصادي الجديد، تبدو التطورات في عدن وصنعاء والمهرة ومأرب مجرد تجليات فرعية لعملية إعادة تموضع كبرى تتداخل فيها اعتبارات الأمن البحري، وتوازنات الطاقة، والتجارة العالمية، والممرات الرقمية، وصعود الفاعلين المحليين في المناطق التي تراجع فيها حضور الدولة المركزية.
إن ما يجري اليوم ليس إعادة توزيع للسلطة اليمنية فحسب، بل هو تحوّل في طبيعة موقع اليمن ذاته داخل منظومة الأمن الإقليمي؛ تحوّل يعكس انتقال مركز الثقل من صراع السلطة التقليدي إلى صراع السيطرة على الممرات التي تمر عبرها سلاسل القيمة الحديثة.

اليمن في بؤرة تنافس الممرات البحرية
أصبح البحر الأحمر خلال السنوات الأخيرة أحد أكثر المساحات الجغرافية حساسية في العالم. فهو لم يعد ممراً لتجارة البضائع فقط، بل تحوّل إلى عقدة لخطوط الطاقة، ونقطة ارتكاز لمسارات الكابلات البحرية التي تُعدّ شرايين الاقتصاد الرقمي العالمي.
ومن هنا، لم يعد الصراع في اليمن شأناً داخلياً بمعزل عن هذا التحوّل. بل إن القوى الإقليمية والدولية تنظر إلى اليمن باعتباره جزءاً من معادلة حماية المضيق و«ضمان استقرار الممرات» بين قناة السويس وباب المندب والمحيط الهندي.

حضور الشرعية واستمرار حاجة الإقليم لمرجعية الدولة
رغم الضغوط والتحديات، ما يزال وجود الشرعية — بصفتها مرجعية سياسية وقانونية — يشكّل ضرورة إقليمية ودولية للحفاظ على الحد الأدنى من تماسك الكيان اليمني، ومنع الفراغ الدستوري الذي قد يفتح الباب أمام سيناريوهات غير محسوبة.
التحديات التي تواجهها الشرعية حقيقية، لكن توصيف المشهد بحدية يتغافل عن حقيقة أن استمرارها — ولو رمزياً — ما يزال جزءاً من منظومة إدارة التوازنات الإقليمية.

صعود القوى الجنوبية ومتطلبات التوازن
شهد الجنوب خلال السنوات الأخيرة بروز قوى سياسية وعسكرية استطاعت ملء فراغ مؤسسات الدولة في عدد من المناطق الحيوية، الأمر الذي جاء نتيجة حاجة محلية وإقليمية إلى سلطة قادرة على إدارة الأرض والحفاظ على استقرار الموانئ.
صعود المجلس الانتقالي يمثل جزءاً من إعادة هندسة التمثيل المحلي ضمن مسار أوسع لإعادة تنظيم السلطة، مع مكاسب حقيقية وتحديات قائمة تتعلق بإدارة الخدمات وبناء نموذج مؤسسي مستدام.

اليمن في إطار الهندسة الإقليمية الجديدة
تتشكل ملامح المشهد اليمني الجديد وفق أربعة محددات رئيسية: أمن البحر الأحمر، والاقتصاد الجيو-رقمي، والتحولات المتسارعة في القرن الإفريقي، وصعود الفاعلين المحليين كسلطات إدارة أرض. وقد أصبحت هذه المحددات أكثر ترابطاً مما مضى، إذ بات أمن المضائق وحركة التجارة والطاقة متداخلة مع حسابات النفوذ الإقليمي، ومع إعادة تعريف الأدوار داخل شبه الجزيرة العربية والقرن الإفريقي على حد سواء.
ولا يقتصر تأثير هذه المحددات على إعادة رسم خريطة السلطة في اليمن، بل تمتد آثارها إلى تعريف طبيعة الدولة اليمنية نفسها خلال المرحلة المقبلة؛ دولة ذات بنية متعددة المستويات، تتعايش فيها المؤسسات المركزية مع سلطات محلية قوية تملك زمام الإدارة اليومية، بينما تشكل الجغرافيا البحرية الأوسع — لا السياسة اليمنية وحدها — الإطار الذي يُعاد داخله توزيع القوة وتحديد شكل الحكم ومستوى استقلالية المكونات المختلفة.

نحو قراءة أكثر واقعية للمستقبل
يتقدم اليمن في واحد من ثلاثة مسارات رئيسية: بقاء التعدد القائم بصيغته الراهنة مع استمرار محاولة ضبط العلاقات بين المكونات المحلية والشرعية؛ أو إعادة هيكلة شاملة بدفع إقليمي ودولي يعيد ترتيب مراكز القوة وفق متطلبات الأمن البحري والمصالح المشتركة؛ أو الدخول في تسوية سياسية واسعة تُدمج فيها الأطراف ضمن إطار حكم متعدد المستويات يسمح بدرجات أعلى من اللامركزية، ويقلل من احتمالات التصادم ويزيد من فاعلية إدارة المناطق.
وفي كل هذه السيناريوهات يبقى موقع اليمن في البحر الأحمر هو العامل الأكثر تأثيراً؛ فهو الذي يحدد درجة الاستقرار الممكنة، ونمط الشراكات التي يمكن بناؤها، وحدود الدور الذي ستلعبه القوى المحلية، سواء في الجنوب أو الشمال. ومع تطور معادلات الملاحة والطاقة والتجارة الرقمية، يبدو مستقبل اليمن وثيق الارتباط بتطورات الإقليم أكثر من ارتباطه بمشهد الداخل وحده، ما يجعل قراءة المستقبل مرهونة بترابط البُعدين: اليمني والإقليمي في آنٍ واحد.

خلاصة
التطورات الراهنة ليست فصلاً جديداً من فصول الأزمة الداخلية فحسب، بل جزءاً من تصميم إقليمي واسع تُعاد من خلاله صياغة موازين البحر الأحمر وإعادة توزيع النفوذ، مع بروز قوى محلية مستعدة لملء الفراغ الذي خلّفه تراجع الدولة المركزية.
ويبقى الثابت أن اليمن، بمضايقه وموانئه وموقعه، سيظل لاعباً لا يمكن تجاوزه في معادلة الأمن البحري للقرن الحادي والعشرين.