فنان يُجسِّد الذاكرة التراثية لأبين

فنان يُجسِّد الذاكرة التراثية لأبين

أبين (أبين الآن) حسن الكنزلي

في زمن تتسارع فيه الحداثة لتبتلع ملامح الهُويّة، يبرز من بين غبار الإهمال صوت هادئ، صادق ومؤثر، يحمل بين يديه الطين والخشب والحجر ليصنع منها ذاكرة وطنٍ ومجد إنسان. ذلك هو الفنان التشكيلي مهدي عبدالله حسين، ابن مدينة باتيس بمحافظة أبين، الذي جعل من المجسمات التراثية رسالة حبّ وانتماء، ومن الفن وسيلة حفظ لهوية مهددة بالاندثار.

مهدي ليس فنانا تقليديا يُقلّد أو يكرّر، بل هو حارس الذاكرة الأبينية الذي يلتقط تفاصيل البيئة المحلية — أدوات الزراعة القديمة، وسائل النقل التقليدية، أدوات المطبخ الريفي، وحتى ملامح البيوت الطينية والنخيل الممتد على وادي بنا — ليعيد تشكيلها في مجسمات نابضة بالحياة، وكأنها تقول: ما زلنا هنا، لم نغِب بعد.

تتحول أعماله من مجرد أشكال جامدة إلى سرد بصريّ لتاريخ الناس، حيث تُحاكي المجسمات حياة الأجداد، وتستحضر صبر الفلاح، وذكاء الحرفي، وروح المرأة الريفية التي كانت تصنع من البساطة فنا ومن الشقاء جمالا.

بدأ مهدي رحلته الفنية منذ كان طفلا في الصف الرابع الابتدائي، حين شارك في معارض مدرسته الصغيرة، ليتلقى أولى التصفيقات التي زرعت في قلبه بذرة الشغف. ومع مرور الأعوام، لم تخبُ تلك البذرة، بل نمت رغم شحّ الإمكانيات، حتى أصبحت اليوم أعماله تزين جولات وحدائق ومرافق عامة في محافظة أبين، شاهدة على موهبة لا تعرف التوقف.

ظهر مهدي في عدة وسائل إعلامية — من قنوات بلقيس والسعيدة وعدن إلى إذاعات أبين وصنعاء — حاملا رسالته التراثية بلغة البساطة والصدق، متحدثا عن حلمه بأن يرى معرضا خاصا يجمع أعماله، لتكون ذاكرة مفتوحة لأجيال أبين القادمة.

رغم أن الفنان مهدي لم يتلق أي دعم رسمي من السلطات، إلا أنه نال شهادات تقديرية من إذاعة أبين ومكتب البيئة واتحاد الأدباء والكتاب الجنوبيين، وهي رموز عرفان تعبّر عن تقدير المجتمع الثقافي له، لكنها لا تكفي لتغطية كلفة حلمه ولا لفتح أبواب رزقه.

فهو اليوم يعمل بجهد ذاتي في ظل ظروف معيشية قاسية، يصنع بيديه ما تعجز عنه مؤسسات تملك ميزانيات ضخمة ولكنها تفتقد الرؤية.

أعمال مهدي ليست مجرد تحف جمالية؛ بل هي وثائق فنية تحفظ هوية أبين. فهي تذكّر الأجيال الجديدة بجمال الحياة البسيطة التي عاشها الآباء، وتعيد وصل الناس بجذورهم بعد أن فرقتهم المدينة واللهاث وراء المظاهر.

إنها وسيلة تعليمية وثقافية يمكن أن تُستثمر في المدارس والمتاحف والمهرجانات التراثية لتعريف الشباب بتراثهم المحلي، وغرس الاعتزاز بالهوية في نفوسهم.

إن رعاية أمثال مهدي ليست ترفا؛ بل واجب وطني وثقافي. ينبغي أن تتبناه جهات مثل وزارة الثقافة أو الهيئة العامة للآثار والمتاحف أو السلطة المحلية بمحافظة أبين لتبني معرض دائم لأعماله أو المنظمات المهتمة بالتراث والتنمية الثقافية المحلية والدولية أو القطاع الخاص ورجال الأعمال عبر مبادرات الرعاية الفنية والاستثمار الثقافي.

يمكن لمهدي أن يعزز حضوره الفني من خلال:

- تنظيم ورش عمل لتدريب الشباب على فن المجسمات التراثية.

- توثيق أعماله رقميا عبر مواقع التواصل والمنصات الثقافية.

- التعاون مع مصممين ومعماريين لإدخال مجسماته في التصاميم الحضرية للمدن والحدائق.

إن الفنان مهدي عبدالله حسين يمثل نموذجا للفنان الذي يصنع من الصمت صوتا، ومن البساطة فنا، ومن الحرمان دافعا.

هو ابن بيئته، لكنه أيضا ابن المستقبل، لأنه يدرك أن من لا يحفظ ماضيه لا يملك أن يرسم غده.

فلتكن قصته دعوة صادقة لرعاية الفن الأصيل قبل أن تندثر ذاكرة المكان، ولنتذكر أن الوطن لا يُبنى فقط بالإسمنت؛ بل أيضاً بالمجسمات التي تحفظ روحه وجماله.

ودمتم سالمين!