الحياة الرسالية

في زمنٍ غلبت فيه الماديات على القيم، وتحوّلت الحياة عند كثيرين إلى سباقٍ محموم وراء المتاع الزائل؛ نحن أحوج ما نكون اليوم إلى أن نستعيد المعنى الأصيل للحياة كما أرادها الإسلام؛ حياة تحمل رسالة، وتبني هدفا، وتُصلح واقعا. ليست الحياة في ميزان الإيمان أكلا وشربا ولهوا عابرا؛ بل هي رسالة وموقف وجهاد وبناء. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].

المسلم الحق ليس إنسانا يعيش على هامش الحياة؛ بل يعيش فيها ليمنحها معنى؛ يعيش لله، ويعمل لله، ويتحرّك في الأرض بقلبٍ نابضٍ بالرسالة. كل يومٍ في عمره لبنة في صرح الأمة، وكل جهدٍ يبذله زاد لآخرته، وكل موقف يقفه شهادة على صدق انتمائه لدينه.

أما الذي يعيش لنفسه فقط؛ فهو حبيس همومه الصغيرة ومصالحه الضيقة، فقد فَقَدَ لذّة المعنى، وغاب عنه سرّ الاستخلاف في الأرض. أما الرسالي، فهو من يعيش للناس كما يعيش لنفسه، يحمل القرآن في قلبه، والحق في لسانه، والعمل في يده، فإذا مرّ في الأرض؛ ترك أثرا من نور.

الحياة الرسالية ليست شعارا يُرفع، ولا عاطفة مؤقتة؛ بل طريق طويل من الوعي والعزيمة والإيمان والعمل. هي أن تشعر أن حياتك جزءٌ من خطة ربانية لإعمار الأرض بالحق والخير، أن تكون جنديّا لله في موقعك؛ طبيبا، معلما، تاجرا، عاملا، أو ربَّ أسرة. ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إن لي نفسًا تواقة، وما نالت شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه حتى نالت رضا الله».

الرسالية ليست أن تعيش لنفسك؛ بل أن تحيا لهدف أسمى ورسالة أوضح، أن تكون في سعيك اليومي لبنة في بناء الأمة، ومثالً في الصبر، وقدوة في الإحسان.

لكي تُبنى هذه الحياة على أساسٍ متين، لا بد من دعائم راسخة:
- الإخلاص لله؛ بأن يكون الله غايتك في كل عمل تقوم به؛ لا رياء ولا مصلحة. قال ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»؛ فالإخلاص هو روح الرسالة.
- اليقين بوعد الله؛ فرسالية بلا يقين؛ كجسد بلا روح؛ فالمؤمن يرى النصر بعين الإيمان؛ قبل أن تراه العيون. ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90].
- الصبر والثبات؛ فطريق الرسالة مليء بالعقبات؛ لكنه الطريق الذي يصنع العظماء. قال ﷺ: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».
- التوكل مع العمل؛ فالرسالي لا يعرف السكون، يجمع بين الإيمان بالقدر وبذل الأسباب. قال علي رضي الله عنه: «اعملوا فإن العمل علامة الإيمان، ولا تقولوا نتوكل ونقعد».

المسلم الرسالي لا يحصر الدين في المسجد، ولا يظن العبادة محصورةً في السجود؛ بل يعبد الله في كل موقعٍ من حياته؛ في المسجد ركوعا وسجودا، وفي السوق صدقًا وأمانة، وفي العمل إتقانا وإحسانا، وفي المجتمع عدلا ورحمة.
هكذا فهم الإسلامَ جيلُ النور الأول، جيلُ الذين قال الله فيهم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ﴾.

الرسالي هو إنسانٌ متوازن، لا يطغى عنده الجانب المادي على الروحي، ولا الروحي على العملي. يعيش قلبه في السماء، ويداه في الأرض؛ كما قيل: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
هو عاملٌ؛ لا يقول فقط، مصلحٌ؛ لا يكتفي بالانتقاد، إيجابيٌّ؛ لا يعيش في ظلّ السلبية، مؤمنٌ بأن الجمود موتٌ، وأن المؤمن الصادق لا يطفئه الواقع مهما أظلمت سماؤه.

ورسالية الرسالي متجسدة في ميادين الحياة:
- فعباديا يعيش بحضور القلب، لا طقوس الجسد. يرى في صلاته مناجاة، وفي ذكره حياة.
- وأسريا يغرس في أبنائه الإيمان والمسؤولية، يجعل بيته مدرسةً للقيم.
- واجتماعيا يبني ولا يهدم، يخدم الناس ويشاركهم آلامهم وآمالهم.
- وعمليا يرى الإتقان عبادة، والإهمال خيانة.
- ودعويا يدعو بالحكمة؛ لا بالخصومة، بالحب؛ لا بالعنف؛ لأن دعوته رحمةٌ للعالمين.

ويدرك المسلم الرسالي أن التغيير لا يأتي من الخارج؛ بل يبدأ من داخل النفس. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. هو تغييرٌ واعٍ، متدرج، قائم على العلم والتربية والبصيرة. فالجهل عدوّ الرسالة، والعلم نورها، والوعي بواقع الأمة شرط النهضة.

والحياة الرسالية تواجه تحدياتٍ كثيرة؛ منها:
- الغفلة التي تطفئ الهمة، وضعف الإيمان الذي يضيع الهدف، وضغط الواقع الذي يريد إقصاء الدين، والإعلام الموجَّه الذي يصنع العقول الفارغة؛ لكن الرسالي يقاوم كل ذلك بالصبر والعلم والعمل الجماعي، مستنيرًا بقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾ [الكهف: 28].

ولا بد للرسالي من زاد يتزود به، ومن أزواد الرسالي:
- الصحبة الصالحة؛ فهي تقويه وتعينه على الثبات.
- الذكر والقرآن؛ فهما يملآن قلبه بالسكينة والنور.
- العلم والبصيرة؛ فبهما تفتح له أبواب الفهم الراشد.
- العمل الميداني؛ فهو يحوّل الإيمان إلى واقعٍ نافع.
- التربية المستمرة؛ فهي تزكي النفس وتجدد النية.

ومن عاش لله لا لنفسه:
- وجد السعادة الحقيقية والطمأنينة العميقة.
- يجد الرضا، ويترك الأثر، ويخدم الناس، وينال محبة الله وكرامته في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].

الحياة الرسالية هي أن تحيا لله في كل لحظة، أن ترى في نفسك أداةً للخير، وفي يومك فرصةً للبناء، وفي وجودك رسالةً للتغيير.
فلنجدد العهد مع الله أن نكون من الذين قال فيهم سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
لنحيا بالرسالة، لا بالعادة؛ وللأمة؛ لا للذات؛ ولله؛ لا للدنيا.
جعل الله حياتكم كلها رسالية، ودمتم سالمين!