قراءة تحليلية في اجتماع الدولة بقصر المعاشيق
بقلم: مصطفى محمود
قد يبدو الاجتماع الذي عقده رئيس الجمهورية بالحكومة يوم أمس الأحد الموافق 23/11/2025م في قصر المعاشيق عاديًا.. أو هكذا يريد المشهد أن يوحي لمن يمرّ عليه مرورًا سريعًا، لكن أي قارئ يحاول أن يتثبّت قليلًا سيلاحظ أن شيئًا ما كان يتحرك خلف الكلام؛ كأن الدولة ـ وهي بالكاد واقفة على قدميها ـ قررت لأول مرة أن تتوقف عن مجاملة نفسها.
الاجتماع بدا كأنه لحظة تراجع فيها الصوت الرسمي خطوة إلى الخلف كي يفسح المجال لشيء يشبه الاعتراف: الاعتراف بالخلل الذي تراكم خلال سنوات إلى أن صار جزءًا من الهواء العام.
الرئيس رشاد العليمي ترأس الاجتماع، لكن ما كان لافتًا ليس وجوده في رأس الطاولة، بل الطريقة التي أدار بها الملفات؛ بدت وكأنها تعود إلى مكانها الطبيعي: حضن الدولة. ربما تأخر هذا الاعتراف، وربما جاء في وقت ثقيل على الجميع، لكنه اعتراف على أي حال.. وخطوة من النوع الذي لا يُعلن عنه بعبارات كبيرة، بل بتفاصيل صغيرة تنفلت من بين الجمل.
توحيد الإيرادات، ضبط المنافذ، الأمن، المسار الإنساني.. هذه ليست مجرد عناوين، بل مفاتيح كانت الدولة قد فقدتها واحدًا تلو الآخر، ثم بدأ الرئيس ـ بطريقة معقدة ـ يجمعها من جديد، لا أحد يتوقع أن يتغير الواقع سريعًا؛ وربما هذا ما يجعل الاجتماع مهمًا: أنه يحاول صناعة بداية لا وعدًا بالنهاية.
منهج علم الدولة يقول إن اللحظة التي تعترف فيها السلطة بعطبها هي لحظة تأسيسية، وقد بدا اجتماع المعاشيق كأنه الانتقال من وصف المشكلة إلى التعامل معها كحقيقة ملزمة، اليمن لم ترَ كثيرًا من هذه اللحظات خلال العقد الأخير، ولعل هذا ما جعل الاجتماع يولد بنبرة هادئة لكنها مشدودة من الداخل؛ كأن الكلمات كانت تختبر نفسها قبل أن تُقال.
نبرة الرئيس كانت تحمل محاولة لإخراج الحكومة من إيقاع ردّ الفعل التقليدي. ليس لأن الملفات قابلة للإنقاذ الفوري، بل لأن الدولة ـ لكي تعود دولة ـ تحتاج قبل أي شيء إلى أن تعرف أين تقف. ربما لهذا بدا التوجيه بربط الإيرادات بالحساب العام في البنك المركزي أكبر من حجمه الظاهري؛ كأنه طريقة غير مباشرة لقول: كفى، الاقتصاد الموازي الذي تمدّد بلا رقابة لن يُترك ليملي قواعده على الدولة.
أما الحديث عن الدولار الجمركي؟ فهذا ملف يفوح منه تاريخ طويل من النفوذ المكتوم. فتحه بهذا الوضوح ليس أمرًا عابرًا، الدولة هنا كشفت جدارًا كانت تهاب الاقتراب منه، وكأنها تعترف بأن السيادة الاقتصادية لا تُستعاد إلا عندما تتوقف الجمارك عن أن تكون خزائن ميليشيات صغيرة مبثوثة داخل مؤسسات كبيرة.
ملف أملاك الدولة أكثر تعقيدًا مما يظهر في السطور: جهاز إداري فقد ذاكرته، ومساحات اختلط فيها الحق بالاستحواذ، وسجلات تحولت إلى أوراق بلا أثر.. لا أحد كان يريد الاقتراب من هذا الملف لأنه يشبه صندوقًا قديمًا لا يعرف أحد ما الذي سيخرج منه.
لكن مجرد وضعه على الطاولة يعني أن الدولة ـ أخيرًا ـ قررت أن تواجه فوضاها الداخلية.. ولو بخطوات مترددة لكنها محسوبة. إنشاء صندوق سيادي ليس ترفًا، بل محاولة لفرض خريطة على جهاز نسي شكل الخريطة أصلًا.
وفي الشق الأمني، بدا الرئيس كمن يضع إصبعه على مفتاح الحقيقة. الأمن ليس ملفًا، ولا حقيبة وزارية. الأمن هو أن يمشي المواطن في الشارع دون أن يصطدم قرار الدولة بشيء لا يراه أحد. لهذا لم يطرحه الرئيس كمسار منفصل، بل كمقدمة لأي إصلاح آخر.. ربما لم يقلها بصراحة، لكن من يتابع نبرة الحديث يدرك أنه كان يلمّح إلى إعادة هيكلة أعمق مما ظهر في البيان.
أما ذِكر الرقم "17 مليون إنسان في حالة احتياج"، فقد بدا كأن الرئيس يحاول الإمساك بالواقع من عنقه. لا لإثارة العاطفة، بل لتذكير الجهاز الحكومي بأن الطريق الذي يمشي عليه هش وخطير.. إنشاء هيئة وطنية للإغاثة ليس تحسينًا تنظيميًا؛ هو محاولة لإعادة الدولة إلى قلب ملف تُرك لسنوات لتتنازعه قوى محلية حولته إلى مصدر نفوذ، لا مسارًا إنسانيًا.
وفي السياسة الخارجية، استخدم الرئيس تعبير "موجِّهات" بدل "علاقات".. التفصيلة تبدو لغوية، لكنها في العمق إعلان بأن الدولة تحاول حماية نفسها من ضغط التقارير الدولية، لا الاكتفاء بالتفاعل معها.. أما استخدام التصنيف الإرهابي للحوثيين كأداة تفاوضية، فليس ضعفًا؛ الدولة ببساطة تسحب وزنًا خارجيًا إلى داخل معادلتها المتعبة.. كثير من الدول فعلت ذلك حين كان الداخل هشًا، فاستعارت قوة الخارج مؤقتًا حتى تستعيد توازنها.
ثم جاءت ملاحظة غياب النساء في الاجتماع. لوهلة بدت عابرة، لكنها لم تكن كذلك. كانت كأنها ضربة خفيفة على باب ظل مغلقًا طويلًا داخل المؤسسة التنفيذية.. اعتراف بأن القرار لا يمكن أن يظل محصورًا في دائرة واحدة مكررة. نوع من كسر الصمت، لا لأجل التمثيل، بل لبدء زحزحة بناء قديم يرفض أن يتغير.
وفي الصورة الكاملة، إذا حاولنا أن نقرأ الاجتماع دون استعجال، سنجد أنه لم يكن محاولة للإنقاذ بقدر ما كان محاولة لوضع الدولة أمام مرآتها.. وهذا، في علم الدولة، ليس حدثًا عاديًا. إنه لحظة تُشبه ـ في طريقتها الهادئة ـ الشرارة الأولى لأي بناء قادم.. بشرط أن يستمر الضوء، ولا تنهكه اليد التي أشعلته.


