العربية وهوية الأمة

اللغة هي الوعاء الأعمق للهوية، والمرآة التي تتجلّى فيها صورة الذات الجماعية للأمم. وحين يُنظر إلى العربية في السياق الإسلامي، فإن قيمتها لا تقف عند حدّها الثقافي أو التاريخي، وإنما تتضاعف أهميتها لتشابكها تشابكًا عضويًا مع الركن الثاني المؤسِّس للهوية، وهو الدين والعقيدة. فهي لغة النصّ المؤسِّس الذي به تشكّل الوعي الإسلامي، وتبلورت رؤيته للإنسان والكون والحياة، ومنها استمدّ المسلم معاني إيمانه، وفهم مقاصد شريعته، وصاغ تصوّره الكلي للعالم والوجود.

ومن هذا المنطلق، لا تنفرد الشعوب الناطقة بالعربية وحدها بمسؤولية صيانتها، بل تتقاسمها جميع الشعوب المسلمة من هذه الزاوية الجامعة؛ إذ قد تتعدّد الألسنة القومية وتتنوع المكوّنات الثقافية، إلا أنّ اللسان الذي اقترن بالدين والعقيدة يظلّ عنصرًا بنيويًا في تشكيل الهوية العميقة. وبذلك يغدو المسلمون، على اختلاف لغاتهم وأعراقهم، في موقعٍ واحد، يشتركون مع أهل اللسان العربي في الدفاع عن العربية، بوصفها لغة الوحي وحاملة المعنى المؤسِّس لوعيهم الديني وهويتهم الحضارية.

ثم يأتي التاريخ بوصفه العنصر الثالث في بناء الهوية، فالتاريخ سلسلة متصلة من المعنى والإنجاز. فأنت، من حيث هذا اللسان، امتدادٌ حيّ لعقول عبقرية شكّلت حضارة كاملة: امتدادٌ للغزالي في بعده الروحي، وللقاضي عبدالجبار في منهجه العقلي، ولابن رشد في عقله البرهاني، ولأبي حنيفة في فقه الرأي والاجتهاد، وللشافعي في فقه الحديث وتأسيس الأصول، ولأحمد بن حنبل في مركزية النص، وللجاحظ في نثره وفكره الاجتماعي، وللفارابي في فلسفة السياسة والعقل، ولابن سينا في الطب والفلسفة، ولابن الهيثم في المنهج العلمي والبصريات، وللخوارزمي في الرياضيات والجبر، وللمسعودي وابن خلدون في التاريخ والعمران، وللسيوطي والطبري في علوم التفسير، وللمتنبي وأبي تمام والمعري في الشعر وبناء الذائقة، ولابن العربي في التصوف، ولابن تيمية في الجدل المعرفي والنقدي. كل هؤلاء، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وتخصصاتهم، جمعهم لسان واحد، وفضاء معرفي واحد، وهوية حضارية واحدة واسعة لم تلغ التعدد وإنما كانت تحتضنه وتؤطّره.

بهذا اللسان تقرأ نصًا كُتب قبل أكثر من ألف عام، دون وسيط ودون انقطاع، وسيقرؤه من يأتي بعدك بالسهولة ذاتها. أنت حلقة في سلسلة متصلة: جدك يتكلم إليك، وأنت تتكلم إلى حفيدك، بلا قطيعة لغوية ولا اغتراب معرفي. وهذا الامتداد الزمني المتصل، بما يحمله من حيوية تاريخية وعمق تراكمي، يكشف عن خصوصية استثنائية في مسار العربية، إذ قلّ أن عرفت الأمم لسانًا حافظ على حضوره الفاعل ووظيفته الحضارية عبر القرون كما فعلت العربية بين لغات العالم.

إن أخطر ما يواجه هذه اللغة وهذا اللسان اليوم، هو اشتغالات متخفية تتدثر بشعار "إحياء التاريخ القديم ولغته". لكنها لا تقصد التاريخ والتراث بوصفه جزءًا من الذاكرة، وإنما تحصره عمدًا في تاريخ ما قبل الإسلام، وفي لغة ما قبل الإسلام، وهوية ما قبل الإسلام لإحلالها محلّ ما بعد الإسلام. فالمسألة هنا ليست دمجًا للتاريخ وسرديته بقدر ما هو مشروع استبدال: هوية زائفة تُدفع إلى الواجهة لتزيح هوية حقيقية ما زالت حيّة وفاعلة.

ولذلك لن تجد هؤلاء يحتفون بالهوية الجامعة اليوم، ولا باللغة التي صاغت الدين والحضارة معًا، لأن غايتهم التفتيت؛ والإلغاء.. يسعون إلى تحويل المنطقة إلى شظايا هويات: لغات متنازعة، تواريخ متقاطعة، وسرديات مقطوعة الصلة بالعرب والعربية، منزوع منها الإسلام بوصفه عنصرًا مؤسِّسًا للهوية وصانعًا للحضارة. يريدون لك هويات ضيقة، منغلقة، بلا عمق حضاري ولا أفق إنساني.

والمفارقة المؤلمة أن هذا المشروع، مشروع خاسر، فهو لا يستطيع أن يعيدك حقًّا إلى ما قبل آلاف السنين، لكنه قادر على تجريدك من هويتك الحاضرة. وحين تُنزع هذه الهوية، التي كانت تعمل تاريخيًا كحائط صدّ أمام محاولات الاختراق والهيمنة، تصبح أكثر قابلية للتطبيع الكامل! وحينها تجد نفسك بلا قديم، ولا حديث، كطائر نُتف ريشه بحجة استبداله، فلا بقي ريشه الأول، ولا استطاع أن يلبس ريش طائر آخر، فبقي عاريًا!

ومن المفارقات المضحكة المبكية أن يُصادف الباحث في بعض المنصات المعاصرة عباراتٍ من قبيل: "لغة مصر: المصرية"، و"لغة لبنان: اللبنانية"، في ضربٍ من العبث الذي يُراد به الالتفاف على اسم "العربية"، والتنصّل من حمولةٍ حضارية ودينية يُراد التخفّف منها.
إن الدفاع عن العربية اليوم هو دفاع عن هوية جامعة، وعن استمرارية حضارية، وعن حق أمة في أن تبقى متصلة بذاتها، واعية بتاريخها، وقادرة على أن تواجه العالم من موقع الفاعل، لا من موقع الممسوخ الذي لا يعرف من أين جاء ولا إلى أين يمضي.

#اليوم_العالمي_للغة_العربية
•  يسمح بنشرها في المواقع.