حين يُلبس الباطل ثوب الدين
في زمان غريب، يرفع البعض راية «نصرة الدين» بينما يخاصمون العقل ويكذبون المشاهدة، فيحولون النصوص الإلهية إلى أداة للصراع مع الحقيقة، ويقدّمون الدين في ثوب عجيب لا يعرف العقل ولا يواكب السنن الكونية.
هؤلاء يدّعون وحدهم الفهم الصحيح، ويزعمون أن الأمة بأسرها قد ضلّت، وأن العلماء عبر القرون كانوا عميانا عن الحق، فيتحوّل الدين إلى مسرح للادعاءات الفردية بدل أن يكون نورا يهدي العقول.
ومن أبرز صور هذا الانحراف: الادعاء بأن الأرض مسطحة أو أن الشمس تدور حولها، أو الزعم بأن السماء قبة مائية، أو نسب بناء الأهرامات إلى آدم وإدريس عليهما السلام، أو إنكار الخروج إلى الفضاء. كل هذا يأتي في سياق طعن في علوم الفلك والجغرافيا والفيزياء، بزعم نصرة الوحي، وكأن السنن الكونية جاءت لتتحدى النصوص الإلهية، بينما الوحي ذاته أمرنا بالتفكّر والمشاهدة: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُم صَادِقِينَ﴾.
إن هذه الأوهام لم تأتِ من القرآن ولا السنة الصحيحة؛ بل من فهم حرفي مبتور، ومن روايات ضعيفة، ومن اجتهادات بشرية تم تحويلها إلى عقائد. وقد أسقطت النصوص الكونية في القرآن عرضا على تصورات شخصية، فصار النص تابعا لهوى صاحب الادعاء لا هاديا للعقل كما أراد الله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكًا لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾.
وتنتشر هذه الأفكار في أجواء صاخبة، بمقاطع قصيرة مصممة لإحداث الصدمة؛ لا لإظهار الحق، مستخدمة لغة تصادمية تُقسِّم الأمة وتربك العقول، وتوظف العاطفة الدينية والخوف على العقيدة؛ بينما القرآن يربط الإيمان بالتفكّر: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
ومن أخطر آثار هذه الادعاءات: تشويه صورة الإسلام في أعين الناس، وزرع الشك في قلوب الشباب، وتقويض هيبة العلماء والمؤسسات العلمية، وتعطيل التفكير النقدي، وصولا إلى خدمة غير مباشرة لأعداء الدين، فيُقدَّم المسلم وكأنه معاد للعلم وخصم للحقائق الكونية.
وأعظم أسباب هذه الظاهرة هو الجهل المركّب؛ جهل بالعلم وحدود الفهم الشرعي، وضعف التأصيل في أصول التفسير والفقه، وانعدام الثقة بالمؤسسات العلمية، وحب الظهور، وتحويل الدين إلى مشروع للهوى الشخصي.
ولمعالجة هذه الأزمة، ينبغي:
– التمييز بين الوحي المعصوم والفهم البشري القابل للخطأ.
– الجمع بين العقل والنقل، وإحياء فقه المقاصد وسنن الله في الكون.
– تمكين العلماء والمتخصصين من مخاطبة الناس.
– تعليم الشباب التفكير النقدي وأدب الخلاف.
– التحذير من تحويل الظنون إلى عقائد، وتشجيع التواضع العلمي: «من قال لا أعلم فقد أفتى».
الدين لا يخاف من العلم، والحق لا يتعارض مع الحق. الخطر الحقيقي هو أن يُلبس الباطل لباس الغيرة على الإسلام؛ فكم من باطل رُوّج باسم الدفاع عن الدين، وهو في حقيقته تشويه للوحي وهدم للعقل.
والهداية لا تكون؛ إلا بفهم النص كما أُنزِل، وفهم الكون كما خُلق. عندها يظل الإسلام نورا، ويظل العقل حيا، وتبقى الأمة شاهدة على الناس كما أراد الله لها أن تكون.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده الذين يستعمون القول فيتبعون أحسنه، ودمتم سالمين!


