لهجتنا الجميلة.......... *المسحاة*
بقلم/ أبو زين ناصر الوليدي
عجبا ما أجمل وأعظم لغتنا العربية، وما أكثر جوانب إبداعاتها، حيث يبرز في كل زمان جانب من جوانب هذه العظمة، وعندما كنت صغيرا كنت أعجب من تعدد القراءات القرآنية وأود في نفسي أن لا تكون هناك إلا قراءة واحدة فهي تكفي وتغني، يا لجهلي وغبائي، كيف تسع العرب قراءة واحدة وقد تعددت لهجاتهم وأساليبهم في الكلام، وحينما نزل القرآن الكريم كانت للعرب لهجات داخل اللغة العربية الفصحى تشبه اختلاف لهجات العرب اليوم في بلدانهم المتباعدة، بل أنك لتجد الاختلاف في البلد الواحد بل ربما في المديرية الواحدة .
وأصبحت حينما أسمع القرآن الكريم بالروايات المتعددة أجد لها لذة تشعرني وكأني أتنقل بين قبائل العرب حين نزول القرآن الكريم وأسمع طرائقهم في نطق الحروف والكلمات، وأصبحت كثير البحث والسماع للروايات المختلفة خاصة بصوت الشيخ القاريء الصومالي عبد الرشيد صوفي.وتستهويني رواية خلف عن حمزة لمشابهتها الكبيرة مع لهجتنا في دثينة.
وعندما أقرأ في شعر شعرائنا الشعبيين أجدني أستعذب المفردات الموغلة والتي تشعرك بانتمائها العربي الأصيل بقدر استمتاعي بمعاني الشعر وبلاغته وتصرف أغراضه وآفق الخيال الجميل في معانيه.
وربما وجدت أحيانا بعض هذه الكلمات الموغلة في البدوية فأبحث عنها فإذا هي تواجهني في قواميس العرب وفي أشعارهم الجاهلية والإسلامية فلربما شعرت بخفقان في ضربات قلبي، وأقول سبحان من حفظ العربية وحفظ بها كتابه العزيز.
ولربما بحثت عن الكلمة فلم أجدها فأتذكر قول الإمام اللغوي القاريء الكسائي " قد درس من كلام العرب كثير" ومعنى درس (عفا وامحى وذهب أثره ولم يعد له وجود)
ويؤكد هذا أن أصحاب القواميس لم يستوعبوا كل كلام العرب، وأنه فقد منه الكثير، ودليل هذا أنك تواجه بعض المفردات في الشعر العربي ولا تكاد تجدها في قاموس، ولهذا مثلا أضاف (الصاغاني) في كتابه (تكملة الصحاح) حوالي ستين ألف مادة إلى (صحاح الجوهري)، وهناك كتب حاولت جمع ما فات مؤلفي القواميس العربية، طبعا مع عدم التقليل من الجهود الجبارة التي بذلها علماؤنا العظام في هذا المجال .
ومنذ يومين كنت أقرأ في بعض المساجلات الشعرية لكبار شعرائنا الشعبيين فواجهتني كلمة ( *مزحاة* ) وكم تواجهني في شعرنا من كلمات لا أكاد أعرفها فأسأل عنها بعض كبار السن فيسخر من جهلي بهذه الكلمة التي هي جزء من كلامه اليومي، فأدرك أني أنتمي إلى جيل جديد قد فقد الكثير من مفردات لهجته بسبب المدارس والجامعات ووسائل الإعلام التي تستخدم لغة عربية محكية قريبة التناول لمختلف الناس، وهذا يفسر أيضا أنك تجد أن أشعار شعرائنا الشعبيين المتقدمين أجزل من شعر المتأخرين بل تجد شعر الشاعر نفسه ما كان منه قديما أجزل من شعره المتأخر والذي تأثر بالتدفق اللغوي المعاصر، ولهذا تجد قصائد بعض الشعراء الشباب عبارة عن رص لكلمات موزونة بما يشبه كلام الجرايد وهذا الشعر يستهوي جيل أبنائنا الباحثين عن المتعة والضحكة لاغير.
المهم في الكلام أن هذه الكلمة(مزحاة) لم تفهم لي للوهلة الأولى فأرسلت إلى أخي الأستاذ علي الوحيش الباحث الخبير في لهجة دثينة وشعرها وهو تقريبا ينهاهز الستين من عمره فكتب إلي: هذه الكلمة لم تمر علي ولكن من خلال السياق أظنها آلة تشبه *المجرفة* وهنا شعرت والله بخفقة في قلبي وربطت في ذهني بين المعاني فقلت له: الله اكبر فتح الله عليك هذه هي المسحاة التي جاءت كثيرا في كتب السنة وكتب الشعر العربي الأصيل ( وحروف السين والزاي والصاد تتناوب) وتذكرت حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم" بينما رجل يمشي بفلاة فسمع صوتا.... فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، وتذكرت قصة الشاعر الأخطل الذي هجا الأمير النعمان بن بشير حينما قال:
.........
وخذوا مساحيكم بني النجار
وحديث عائشة رضي الله عنها ماعلمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل..
وأتذكر أني قرأت في كتب السيرة في أحداث غزوة خيبر أن اليهود في ذلك اليوم خرجوا يحملون مساحيهم ومكاتلهم متجهين إلى مزارعهم ولا يدرون بهجوم المسلمين عليهم.
والليلة الماضية أرسلت للشيخ الشاعر صالح العرماني - وهو خبير الشعر واللهجة والأخبار،وهو آخر حبة من المسبحة- أرسلت له رسالة أسأله فيها عن كلمة مزحاة في لهجة دثينة فأرسل إلي :
المزحاة قطعه حديدية تثبت في رأس هرواة يتم الحفر بها .
كما قال الشاعر عبدالله سعيد الخدش الله يرحمه:
الثعلب يباله قسم من جيز الأسد
من دون هذا الشرط والله ماتساوينا
ولا قد الثعلب في الحفرة سبد
ما نخرجه حتى ولو جبنا *مزاحينا* .
وبعدها تابعت البحث في قواميس العرب وأشعارها فوجدت ابن منظور في لسان العرب يقول:
المساحي جمع مسحاة وهي *المجرفة من الحديد* .
ووجدت الشاعر الأخطل يقول
ربت وربا في حجرها ابن مدينة
يظل على مسحاته يتركل
وقال الأخطل أيضا
هو القين وابن القين لاقين مثله
لفظح المساحي أو لجدل الأداهم
وغيرها من الشواهد الكثيرة.
.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا
كتبه: أبو زين ناصر الوليدي