شـارع الـفتـاة فـردوس ( قصة قصيرة)
كتبها أبو زين ناصر الوليدي
ــ أتدري يا عز الدين كم كنت أنتظر هذه الليلة؟
لم يكن ذلك من أجل جمال هذا الليل ونسماته ولا من أجل أنوار القمر في ليلة بدره، ولا الجلوس على رمل هذا الشاطئ الجميل، وسماع أنغام البحر الهادئة وهي تتردد على أطراف الرمال، كأنها أنامل الجارية الحسناء على أوتار العود.
ــ بالطبع أكيد، يا صديقي محمود، فأنت لست شاعرًا، ولا متذوقٌ للأدب مثلي، قلوبكم قاسية يا طلاب الأقسام العلمية، جُلَّ أوقاتكم تقضونها في المعادلات والمقادير، وتردُّد الموجات المغناطيسية على قلب المصباح و...
ــ هههه، توقف يا عز الدين توقف، اسمع عباراتك العلمية (وتردد الموجات المغناطيسية على قلب المصباح). يا لك من رقيق تريد أن تحول حركة الموجات المغناطيسية إلى موجات عاطفية، تتسلل خِلسة إلى قلب المصباح الولهان، توقّف قبل أن ينهمر دمعك على المصباح المسكين الذي يرقب النجم الساري، ويناجي الكوكب السيار، الذي سيمر على حبيبته السهرانة في أقصى البادية بين الخيام، تخاطب نجومه وكواكبه التي طافت بحبيبها.
ــ لكن بالله قل لي من أين لك مثل هذه العبارات أيها الطالب الفيزيائي؟، لقد والله سحرتني بخيالك، وكأني أنظر إلى الحبيب هناك، يحدِّق في النجم الذي نَعِم بالنظر إلى حبيبته، ليرسل إليه نظرة كأنها إرسال معكوس لصورة وجه الحبيبة والذي سيرسل أمواجه المغناطيسية إليه.
ــ ههه هه ههه، توقف يا عز الدين هذا تخصصي، الموجات المغناطيسية والذبذبات الغرامية، لا تتدخل في علم الفيزياء، انعكاس الصورة والضوء، دعك في فنك وتخصصك، البكاء على الحبيبة، ومنادمة الأطلال، ومناجاة الليل، والبحث عن الموقد وبقايا الرماد، وأشواك الحظائر وبعر الآرام وآثار الإبل، وانهمار الدمع على الحصى، والوقوف قبل غروب الشمس لمراقبة القافلة وهي تغادر الديار، بحثًا عن المراعي والغدران، وهودج الحبيبة يتهادى على ظهر الناقة المحظوظة، والقافلة تختفي تدريجيًا حتى يبتلعها البين والظلام.
ــ الله.. الله.. الله. والله ما أنت فيزيائي يا محمود، أنت أديب متذوق، ضيّعت نفسك في الفيزياء ومشكلاتها، أي لذة للحياة مع نيوتن وأمبير واينشتاين والصوت والضوء..؟؟
ــ أولًا، يا عز الدين تخيل نيوتن تحت شجرة التفاح الجميلة وهو قاعد في ظلها الظليل، وأمبير وهو يرسل التيار إلى قلب المصباح الميت فتشعشع أنواره، كما يسري الحب في القلب الغافل فيضئ جوانبه وينير خلاياه، واينشتاين وهو يثبت للعالم إن الحياة قائمة على النسبية وليست هي معادلات رياضية صماء، أليس هذا من صميم الروح ومن فيض القلوب؟؟
ــ لله أبوك يا محمود، والله إنك ابن الأدب والشعر، ابن بادية السماوة ورمال نجد، ابن الدَّخول فَحَومَل، وبَرْقَة ثَهْمَد، وبَعْلبَك وقاصِرينا، كأني بك تزور الدِّمَن ومِنى، ومدافع الرَّيان التي عُـرِّي رسمُها، وتُعرِّج على حَوْمانة الدَّرَّاج والمُتَثَلِّم.
ــ دعني أكمل وأقول ثانيًا يا عز الدين.
ــ وهل هناك (ثانيًا) يا محمود، لماذا لم تخبرني بملكاتك الأدبية وروحك العطرة في أثناء دراستنا الجامعية، لتأتيني اليوم بهذه العبارات التي تنساب كأنها...
ــ كأنها الماء الذي يجري في الأوراق، والنعاس الذي يدب في...
ــ ياه يا محمود، الليلة اكتشفتك، لكن قل لي وما هو (ثانيًا)؟
ــ ثانيًا يا عز الدين، الأدب حرفة المفاليس، فحديث الأرواح، وهمس السواقي، وأنفاس الورود، لا يُؤَكِّل عيشًا كما يقولون، نحن في زمن التنازع على البقاء، والتدافع على الحياة، إذا لم يكن لديك ما يكفيك قذفَتْ بك الحياة إلى جانب الطريق، ونبذتك نبذ الحذاء المرقَّعِ، كما يقول شيخكم الحريري، واحتقَرَك الأهل والأقارب، فضلًا عن الأبعدين، وعلينا أن نكون واقعيين. لقد كان أبي أديبًا كبيرًا يعشق الجمال، ويهزه القول البليغ، ويبكيه نوح الحمام، لكنه تركنا فقراء معدمين، لولا لطف الله بنا لأصبحنا عالة نتكفف الآخرين.
ــ لكن يا محمود ألم تـ...
ــ بدون لكن، يا عز الدين هذا الحديث يجرنا إلى الموضوع الذي أردت أن أسألك عنه، وأن نجلس بعيدًا عن حركة الناس، على رمال هذا الشاطئ في هذه الليلة المقمرة، أريد أن تحدثنني بتفاصيل التفاصيل، منذ تعرفتُ عليك في الجامعة، وسمعت بعض الزملاء يذكرون هذا الموضوع، وكأنهم يظنون أني أعرف تفاصيله، بحكم التصاقي بك في أوقات الدراسة، وخارجها أحيانًا، ولكن صدقني أني ما تجرأت على سؤالك، حياءً منك وحفظًا للود فيما بيننا.
ــ الله المستعان يا محمود، إلى هذا الحد؟!، يا أخي ليس بيني وبينك أسرار، وما كان ينبغي أن تتردد كل هذه المدة عن أي أمر تريد أن تقوله.
ــ المهم يا عز الدين الليلة أريدك أن تسترسل لي عن موضوع أبيك الشيخ الزاهد، وما يقول الناس عنه وعن خاتمته، وعن شارع ( فردوس).
ــ قد شككت أنك تقصد هذا الموضوع، ولو سألتني قبلًا لأخبرتك، ولم تكن ثمة حاجة لهذا التردد، لكن دعني قبل الحديث الطويل، أصبّ لنا كأسين من الشاي الأحمر، الذي سيساعدنا على التركيز، وينعش أعيننا قبل أن يغزوها النعاس.
هيه، يا صديقي محمود القصة لا تبدأ من نهايتها، القصة تبدأ من جدي رحمه الله الشيخ الصالح المعروف عند الناس، الشيخ (محي الدين الرازقي)، كان جدي هذا كما تعرف أنت ويعرف الناس في مدينتنا هذه، كان رجلًا صالحًا عابدًا محسنًا، كثير العبادة والإحسان، وهو من بنى كثيرًا من هذه المساجد، وكان شيخًا لعدد كثير من المريدين الذين تربُّوا على يديه، لكن أبرز طلابه وأفضلهم وأنجبهم على الإطلاق هو ولده (مجيب) الذي هو أبي صاحب القصة؛ ذلك أن أباه اعتنى به عناية فائقة، كان يريده أن يخلفه على المدرسة والمسجد وكرسي التعليم، ومن هنا نشأت القضية التي تسأل عنها.
كان جدي وليًا صالحًا حازمًا، وكان شديدًا على ولده، ومن اللحظة التي تحركت فيها قدما أبي، أخذه أبوه إلى المدرسة والمسجد ومحيطه الديني، فنشأ أبي مثل أبيه إن لم يكن أفضل، لا يعرف الدنيا، ولا يفهم تقلباتها ولا كثيرًا من أحوال أهلها، قضى حياته في العلم والذكر والزهد، بين الأوراد والأخبار والطلاب والشيوخ. ولا يفوتني أن ألفت نظرك إلى أن أبي كان وسيمًا جميلًا أبيض اللون مائلًا إلى الحمرة، حسن القوام، فجمع الله له الجمالين، جمال الظاهر وجمال الباطن، ولم يشغله أبوه بالدنيا فلديه من التجارة ما يكفيه وأولاده عن مزاولة أي عمل، أو طلب أي وظيفة، ولم يكن لأبي شغل إلا التفرغ الكامل لأعمال الذكر والدرس والقراءة، ومساعدة أبيه في معالجة بعض قضايا الناس التي ترد إليه، لكن أبي كان خلاف أبيه، كان أبي رقيقًا عاطفيًا غزير الدمعة كثير التأوه، تبكيه النغمة، ويهزه النسيم، ويسكره الجمال، رغم قسوة تربية جدي له، رحمهما الله.
كان لا يرفع رأسه، إما أن يقرأ القرآن الكريم، أو كتاب إحياء علوم الدين، أو ديوان سلطان العاشقين أو غيره من الكتب.
ــ عز الدين.. أرجو أن تتناول الشاي فلعله قد برد، لكن قبل أن تكمل، خذ المنديل وجفف دموعك، وخذ نفسًا عميقًا، قبل أن ننغمس جميعًا في نواح يُبكي الحيتانَ في البحر.
ــ المهم يا محمود، لم يسمح أبي يومًا لقلبه الرقيق أن يعشق، وقد حاوَلَتْ بعض غواني المدينة أن تتسلل إلى قلبه، لكنها وجدت السور مرتفعًا، والحراس أيقاظًا، والباب مغلقًا بأقفال أصلب من الحديد. تزوج أمي (دنيا)، كان زواجًا مفاجئًا، اختارها له أبوه لأنها ابنة أحد مريديه، وكانت تقوم ببعض الأعمال في مركزهم الديني، تزوجها أبي، ورضي بها ليحصِّن بها فرجه، ويُرزَق منها الذرية الصالحة، التي تدعو له بعد موته، هكذا لا غير، كانت أمي بارعة الجمال محبة مطيعة، أحبت أبي حبًا اخترق مخ عظامها.
هل كان أبي يحبها؟
لا أدري، ولكنه كان لا يرد لها طلبًا، عشنا معه في ألذ عيش، يحنو علينا بقلبه العطوف، يؤوينا إلى حضنه الدافئ، أما المال والاحتياجات فلا تسل، كان يضع المال بين أيدينا ويقول خذوا ما تريدون منه ودعوا لي القليل، كان صبورًا قنوعًا، خاشعًا، يصوم أكثر الأوقات، ولا يفطر إلا على اليسير من الطعام، كان يقضي أغلب أوقاته في مسجده ومدرسته، خاصة بعد موت جدي، وتبوؤه مكانه، وكان الناس يحبونه ويعظِّمونه أكثر من أبيه. كان جدي حازمًا قاسيًا أحيانًا، بينما كان أبي حنونًا عطوفًا رقيق القلب متدفق الدمع. كنت أراه يقرأ ديوان سلطان العاشقين والدمع يجري على خديه، وكان يحب الأدب ويقرأ فيه كثيرًا، وكان يقول لي: يا بني، كثير من الفقهاء كانوا أدباء. وهو من حبب إليَّ الأدب والتخصص فيه لدراستي الجامعية.
ــ لكن ما علاقة هذا كله بخاتمة أبيك؟
ــ لا تستعجل علي يا محمود، سيساق الحديث إليك، ولكن صبرك.
ــ آسف، يالله تكلم لن أقاطعك مرة أخرى.
ــ هكذا كان أبي وهكذا كنا وهكذا كان وضعنا، حتى ظهرت على مسرح قلبه الفتاة (فردوس) والتي سمى الناس الشارع باسمها.
ــ نعم أعرفه ولولا شهرة هذا الشارع لنسي الناس قصة أبيك.
ــ كيف هبَّت هذه النسمة على قلب أبي؟ أنا لا أدري وأمي لا تدري، وإخواني لا يدرون، تفرق إخواني قبل موته رحمه الله وبقيت أنا ابنه الأصغر بجانبه، وعايشت أحداث هذه القصة.
أحبَّ أبي الفتاة (فردوس) حبًا ملك عليه كيانه، وأفقده توازنه، كأنَّ حبها ورد على قلبه الظامئ العطشان في لحظة موته، فدبَّت فيه الحياة وانتعشت روحه المنهكة، اعتزل الناس وبقي لا يخرج إليهم إلا فيما ليس منه بد، نسي أمي (دنيا) وأولادها، لكنه لم يكن يشعرنا إلا أني فهمت ذلك أنا فيما بعد. كانت (فردوس) بالنسبة إليه بلسم الجروح، وكهرباء الروح، ولذة الحياة، وبهجة النفس. جاءت إلى قلبه المحروم كالماء الزلال، فانهارت قواه أمام سحر بهائها، فاستظل في جنتها الظليلة، وورد الرحيق من بسمتها العطرة، لكن حاشاه أن يترك أمر ربه أو يتجاوز نهيه، ما هو إلا حديث الأرواح وخيوط الأمل، كان باستطاعة أبي أن يتزوجها ولكن كيف السبيل؟ عطفه على أمي، وحنانه علينا، ومقامه ومكانته التي ستهتز حين يتفرق شمله ويصبح حديث الناس، اعتصم بالصبر، فكان يخرج يمشي على قدميه إلى أطراف المدينة فيناجي البحر ويخاطب الموج، ويعبث بذرات الرمال، سكر بحبها حتى الثمالة، لكن ليس له من سبيل إلا الانتظار، طال عليه الانتظار، فاعتزل في غرفته يقلب حبات سبحته، ويقرأ في كتبه، ويذرف الدمع على حبيبته.
بلغ أبي الرابعة والستين من عمره وهو منتظر، وفتاته فردوس تنتظر، ماتت أمي وهي لا تعلم بالسيول التي جرفت سويداء قلب حبيبها، ولم يكن أحد يعلم إلا أنا وبعض الخواص. عجز أبي عن الانتظار فأصبحت فردوس هي قطب المغناطيس الذي يجره إليه، خرج صبيحة ذلك اليوم وكأنه نشط من عقال، وامتلأ قوة وحيوية فهرع نحو بيتها، أخذ يتنقل من شارع إلى شارع ومن حارة إلى حارة، حتى وقف أمام دارها مشدوها ممغنطًا، كأنه يقف أمام قصر سحري يشبه قصور الأساطير في حكايات السحر والخرافة، وأمام الباب وفي الشارع أخذ ينادي حبيبته فردوس، فتحت الباب ووقفت فيه، نظر إلى وجهها الجميل فوجد ماء النعيم يجري فيه أنهارًا، تأمل في أنوارها الساطعة كانت شامخة جميلة بهية الطلعة، تسمَّرت بين عضادتي الباب، لم يملك نفسه، فهذا يوم اللقاء بعد شوق السنين، فقد القدرة على القيام، ارتعشت رجلاه اهتزت أوصاله، ارتعدت فرائصه، انكب يقبل قدميها ويمرغ وجهه على حذائها ليستنشق عبيرها.
أما هي فقد جمدت مكانها كأنها تمثال من الحديد أو جبل من جبال الهملايا، لحظ الناس هذا المشهد الغريب، هرعوا إليهم، وجدوا الشيخ جامدًا لا حراك له، لقد فارق الحياة تحت قدميها وبين أحذيتها، قلبوه يمنة ويسرة، لقد ذهب إلى الدار الآخرة.
لم يصدق الناس ما رأوا، منهم من رماه بالحجارة ومنهم من أشفق عليه، حملوه من تحت قدميها، وهي في مكانها ثابتة كأنها لا تشعر بمن حولها، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، وتعالى الضجيج.
مر بهم مجذوب صوفي عاشق، قال: دعوا هذا العاشق الشهيد ينعم بجوار حبيبته، ادفنوه هنا، لا تغسلوه ولا تكفنوه، دعوه في ثياب عشقه وغرامه، وادفنوه في هذا المكان.
.