وَحْـيُ الـعَـقَـبَـة
قصة قصيرة كتبتها أبو زين ناصر الوليدي
هبَّت نسمات باردة في ليل مكة المقدس، وكأنها طافت بالكعبة، وسعت بين الصفا والمروة، ومرت على جميع المشاعر المقدسة، ثم زحفت إلى أنفاسنا في هضبة العقبة ونحن متناثرون هناك بعيدًا عن المخيمات التي لم نجد فيها لنا متسعًا، كانت الأعداد كبيرة تغطي الهضبة كما تغطي الحشائش ضفاف الأنهار، كان ذلك في ليالي منى، وقمر محدب يسير باستحياء وكأنه يقف في رحاب تاريخ عتيق، أو كأنه سادن معبد بناه نبي كريم.
كانت تلك النسمات الباردة تداعب وجداني، وتمنعني من النوم رغم الإرهاق الشديد، وكأنها طفلة تحتضن وجه أبيها الذي عاد من سفره متعبًا فآوى إلى فراشه فأبت طفلته إلا مداعبته، كانت تلك النسمات تهبُّ من بين الشعاب ومن خلف الجبال والتلال وكأنها تقلب كتابًا يروي حكايات قرون عبرت هنا في شعاب مكة وأزقتها.
تقلبتُ على فراشي أحاول استدعاء نوم أتزود به لغدي، ولكن هيهات فنداء الوجدان، وهتافات المشاعر، وحديث الرفقاء والجالسين تتجمع مثل تيارات السيل التي تأخذ معها ما زار أجفاني من الغفوات.
كانت خلفي امرأة يمنية تجاوزت الستين تتحدث مع جليستها المصرية عن أنواع الأطعمة والطبخات اليمنية، وتقارنها بما تحدثها به جليستها عن الوجبات والعادات المصرية، وإلى جانبي يتقلب كهل يمني على فراشه محاولًا النوم، وكان بين الفينة والأخرى ينظر إليَّ معبرًا عن امتعاضه من حديث المرأتين، فأراه يحك شعر لحيته الأبيض متململًا، ويهمس إليَّ أحيانًا قائلًا: متى ينتهي هذا المؤتمر الصحفي بين وزيري الطبخ اليمني والمصري؟ تبسمت له ابتسامة ثملة لم تستطع أن تنتشلني من غرقي في أمواج التاريخ والقداسة، كنت غارقًا حقًّا، فقد أتت بي ظروف المخيمات إلى هذه البقعة المتخمة بالتاريخ، فهنا يقال إن إبراهيم انصرف عن ولده وزوجته حين وضعهم تحت الدوحة في بطن مكة، هنا بالذات وفي هذه البقعة يقال إن الشيطان تجلَّى له في صورة ناصح أمين يخوفه من عواقب تصرفه الطائش، ولكن إبراهيم فهم طيش الشيطان الرجيم وتخذيله، فأخذ سبع حصوات فرجمه بها ولعنه، وتكررت نصائح الشيطان، وتكررت رميات إبراهيم؛ فأضحى جميع الحجاج يعيدون في المكان نفسه ما يشبه المشهد التمثيلي لتلك الحادثة لتكون جزءًا من شعائر حجهم تخليدًا لموقف أبيهم العظيم.
لم يكن يعنيني مع نشوة القداسة الجدل العلمي عن ثبوت تلك القصة من عدمه، حيث لم أجد أي تفسير للحادثة إلا ذاك، وكان يتردد على ذهني تساؤل عن علاقة رجم إبراهيم ومنح الشيطان وصف الرجيم، لعل ذلك من وحي العقبة التي نتناثر عليها.
وعلى هذه الهضبة يبرز شباب من أجدادي اليمنيين كانوا يومًا يتسامرون هنا تحت جنح الليل في ليالي منى الجميلة، فيأتيهم الرسول فيؤمنون به ثم يتداولون معه دراسة خطة تغيرت بها الجغرافيا والتاريخ، لم يستطع وجداني المنتشي أن يخرج من تلك القرون فهو يراوح فيها، وتبرز له مئات الصور كأنه يقلب ألبوم عثر عليه في أحد كهوف مكة التاريخية.
نهضت من فراشي ولازالت المرأتان تنتقلان من حديث إلى حديث، ومازال ذلك الكهل يتقلب على فراشه بملل ويحك لحيته بغضب، وضجيج الأصوات يملأ الهضبة والنسيم يتدفق، والقمر يسبح في سمائه، والنجوم تحيط به كالهالات في وجه الحسناء، تنقَّلتُ من مكان إلى مكان وخمرة القداسة تسيل في دماغي وشراييني كما تسيل زمزم من عمق الأرض والتاريخ، كنت أجلس هنا لأنظر إلى مخيمات منى تحت الليل، وربما جلست أتحدث مع بعض الحجاج من جنسيات مختلفة؛ فإن كانوا عربًا تبادلنا الحديث، وإن كانوا عجمًا تبادلنا النظرات والابتسامات التي تغني عن الحديث، حتى جلست إلى رجل ستيني ذي لحية اختلط فيها السواد بالبياض، وثياب شامية، ووجه يقطر تقىً، ولسان يقطر ذكرًا وعسلًا، فلمَّا تنبَّه لوجودي مدَّ يده إليَّ ليقبض على يدي بكلتا يديه الباردتين ويقول: أخوك (محمد الصوالحة) من الأردن، قالها بنبرة شامية موسيقية وكأنه مذيع في برنامج (مساء الحب) .
كانت يدي الصغيرة الباردة بين يديه الكبيرتين تلتمس الدفء من موجات الحب التي يضخ بها قلبه النقي، فيرسلها عبر شرايين المحبة لتتجمع في أيدينا المتشابكة، ولتحوِّل قلوبنا إلى مضخات تتدفق بتيارات الحب المتبادل، فتركنا الحديث للمشاعر وصمتت الألسنة.
سألني: من أي بلاد أنت يا أخي؟
رفعت عينيَّ إلى عينيه فقلت بلسان أثقلته المشاعر: "من اليمن".
ــ أهلًا وسهلًا ومرحبًا بأهل اليمن، أهل الإيمان والفقه والحكمة، أهلًا بأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهلًا بأصحاب القلوب الرقيقة والأفئدة اللينة.
ــ أهلا بكم يا أهل الشام، يا خيرة الله من خلقه.
سألت الأخ الصوالحة:
من أي مدينة في الأردن أنت؟
قال: أنا في الأصل فلسطيني من قضاء الرملة، نزح جدي من فلسطين عام ١٩٤٨م، كان عمره آنذاك عشرين سنة، كانت العصابات اليهودية تزحف على المدن فتقتل من فيها، وتدمر القرى والمدن، وتحرق الزروع والثمار، وتهدم البيوت على رؤوس أصحابها، فكان لابد من النزوح حيث لم يكن لنا ناصر ولا معين، وتعاون علينا العالم كله وخذلنا إخواننا.
كان يتحدث والحمرة تطفو على وجهه، وعيناه ترمقان من تحت نظارته الفضية، وأصابعه متشابكة يفرك بعضها بعضًا، لا أدري هل ذلك طلبًا للدفء أم أن أصابعه تمثل تلك الاشتباكات التي يحدثني عنها.
قلت: وهل يعني هذا أنك الآن أردني بصورة مكتملة؟
قال: نعم، وهكذا معظم الذين نزح آباؤهم في ١٩٤٨م، فنحن أردنيون تمامًا وإن كانت أصولنا فلسطينية.
قلت: وهل تستطيع زيارة قريتك في قضاء الرملة؟
قال: من الناحية القانونية ذلك متاح لنا كأردنيين وفق اتفاقية السلام، لكن لن يكون ذلك مني أبدًا؛ لأنه نوع من الاعتراف بإسرائيل، مع أن بعض الفلسطينيين ذهبوا لزيارة قراهم وحاراتهم التي غيَّر اليهود كثيرًا وقليلًا من معالمها، ولكني لا ألومهم فلهم عذرهم وظروفهم أما نحن فلم ولن نذهب.
ثم استطرد قائلًا: لا زالت معنا وثائق أرضنا وممتلكاتنا، ولا زال أبي يحتفظ بعملة فلسطينية جاء بها جدي من فلسطين، ولقد حاول بعض الفلسطينيين أن يقنعوا أبي بالذهاب إلى هناك ليعرفهم على قراهم ومناطقهم، فرفض رغم إلحاحهم الشديد، فلما سألته عن رفضه قال:
"يا بني لقد أخبرني الذين ذهبوا إلى هناك أن قريتنا لا زالت على حالها عام الخراب ولم يعمرها اليهود ولم يقتربوا منها، إلا أنه لم يعد يسكنها أحد، وهي أشبه بمناطق عسكرية مهجورة، ويعز عليَّ أن أرى بلدتي وقريتي وبيتي ومزارعي وهي خرائب مغتصبة".
لما قال جليسي ذلك قفز خيالي ليرسم المكان وكأنه يقف على تل هناك، وكأني أنظر إلى بقايا منازل، وآثار مزارع، وخطوط لطرقات تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، وقرى وسهول تتلفع بالسواد حزينة تبكي على الراحلين وتنتظر القادمين، فقد طال عليها الانتظار حتى أوشكت أن تمل البكاء، وكأني أنظر إلى البوم والدبابير والعناكب والهوام، وقد طاب لها بين تلك الجدران المقام، وهناك بقايا عظام متحللة لقوم كانوا يومًا أهل هذه البيوت، وفلاحي تلك المزارع.
ضرب أخي الصوالحة على كتفي حين رأى الدمعات تتدفق من عينين أرهقهما السهر والسفر وقال:
لا تحزن يا ولدي فنحن نعيش على ميعاد لابد أن يأتي، سنعود إلى أرضنا يومًا ونصلي في أقصانا السليب.
يا بني علينا أن نكفكف دموعنا ونستمر في إصلاح قومنا ونجتهد في تغيير بيئاتنا ولن يخذلنا الله.
يا بني حين علمت زوجتي أنها حامل دعت الله أن يرزقها ولدًا يكون مؤذنًا للمسجد الأقصى وأسمته (بلال)، ولد بلال، ولشدة تعلقي بالأمل رأيت في منامي أنني أصلي في المسجد الأقصى، وولدي بلال يرفع الأذان، نحن نعيش على الأمل وكل فلسطيني له بلال وسعد وخالد والقعقاع وعمرو والزبير، امسح دمعاتك يا ولدي وارفع يديك المبللتين بالدموع إلى مولاك لعلكم تكونون يومًا أو أحد أبنائكم من الزاحفين إلى المسجد الأقصى المبارك.
صافحني الأخ محمد الصوالحة ثم استلقى قريبًا مني على بطانيته، جمع أصابع كفيه وشبك بينهما ثم وضعهما خلف رأسه على وسادته ومد رجليه، ثم رفع قدميه على حقيبة متوسطة، وأخذ يتمتم بكلام غير مفهوم إلا أنه لم يخلع نظارته.
أما أنا فقد جلست أرقب منى
منتظرًا طلوع الفجر الصادق.
.
*من كتابي كريستيانا الفاتنة*
.