عندما يكون الأدب لعنة 

بقلم / أبو زبن ناصر الوليدي 

أتاحت لي مواقع التواصل الإجتماعي التعرف على الكثير من الناس، من شتى الأماكن والأفكار والأمزجة والمشارب والعقليات، وفتحت لي نوافذكثيرة من الحوارات والنقاشات وتبادل وجهات النظر في كثير من القضايا الشرعية والسياسية والثقافية وغيرها،  ووجودي في وسط إسلامي فتح لي أبوابا من محاورات إخواني الطيبين، وفيهم ولاشك الذكي والعاقل والمتعمق والحصيف والمتوسط والحاد والمتشنج ومابين ذلك،  ووجدت فيهم كما وجدت في غيرهم من الأوساط الثقافية والأدبية بل وحتى الشعبية شريحة (النرجسيين) وهم الذين يمتلكون الحقيقة الكاملة في كل قضية يناقشونها، وفي كل موضوع  يتناولونه.
 كنت قديما امتعض من هكذا سلوكيات وأفكار ومواقف وأشعر بالضيق فكيف يمكنني أن أقنع هذا الدماغ المتصلب على فكرته التي اكتملت أركان براهينها وقامت الأدلة القطعية على صحتها، وماهي في الواقع  إلا وجهة نظر لا تتجاوز الظنيات التي يتأرجح الرأي فيها،  كنت أتضايق كثيرا حين أتعامل مع هذا النوع من الناس خاصة أني أعاني من حموضة في معدتي تجعلها وكأنما هي صندقة لبيع العشار،  لكني منذ سنوات لم أعد أتضايق لا من نقاشاتهم ولا من تناولهم للقضايا ولا من شطب رأيي بحروف مقتضبة تحمل كل معاني اليقين، لم أعد كذلك حين قرأت في علم الاجتماع ونظرت إلى الموضوع كظاهرة اجتماعية فكرية تتنوع معالمها وتتشكل نماذجها، ففي كل حالة أرى نموذجا يلذ لي تتبع أعراضه وأسبابه وآثاره، فأصبح ماكان يضايقني محل قراءة.
حتى أبو عبدالله الفلاح الذي في منطقتنا اكتشفت الآن بعد أن فارقته منذ سنوات أنه  (نموذج) من تلك الظاهرة،  يااااه لقد فاتني شيء كثير ومتعة جميلة وقراءة شائقة.
لما كنت أمر في السوق وأرى أبا عبدالله واقفا على صناديق الطماطم الكثيرة التي يبيعها وهي من أرضه الخاصة،  أراه يضع السيجارة بين شفتيه ثم يمتصها بقوه فائقة فيقذف الدخان من فمه ومنخريه وكأنه دخان أعواد الذرة اليابسة التي نوقدها أيام كانون الباردة بعد توقف المطر، أراه مبتسما واثقا أن بضاعته هي أفضل بضاعة في السوق، خاصة أنها سقيت بماء السيل، وحتى لو أخبرته أن أكثر البائعين سقي طماطمهم بالسيل، فسيستطرد في حديثه عن خصوبة أرضه والسماد والعناية الكبيرة التي حظيت بها، وربما يأخذ بعض حبات الطاطمم يديرها في كفه ليؤكد لك صحة مقدماته الكثيرة،  وحين يبيع تيوسه وكباشه في سوق الغنم فهو يعرضها بنفس القدر من الثقة واليقين فتشعر وربما يقنعك أن أستراليا وجناتها وأنهارها تعجز عن تربية هذا النوع من المواشي، لا سيما  وهو يزعم أنه يختار الفحل والمرعى والأعلاف بدقة متناهية وهكذا حين يشتري القات فيهز غصنا منه بين أصابعه لترى براعة اختياره للقات،  فالقات ليس بالقيمة بل بحسن الذائقة كما يكرر ، وعندما يمد يده ليشتري علبة شراب الرمان (فانتا) فحين يقلب ثلاجة البائع يبحث عن العلبة الأفضل تتوهم أن العلب تختلف وأن كانت نفس النوع ، أما سيارته البيكاب البيضاء فهي أقوى وأمتن وأريح من سيارات اللكزز. 
وتذكرت آخر في حارتنا صاحب بقالة موقن يقينا لا تحركه الريح الصرصر العاتية  أن كل البضاعة التي في بقالته مختلفة،  وحتى حين يذهب إلى سوق السمك فحتما  (الكيلو) الثمد الذي يشتريه بعد أن يطلع روح البائع هو أفضل ثمد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا،  ويختلف حتى عن الثمد الذي قطع من نفس الحوت.
أقسم لكم أني لست أديبا ولست فقيها ولكني قاريء للأدب والفقه، لكن عدد من أصدقائي الدعاة النرجسيين اليقينيين  يصرون على أني أديب متمكن  ليس تشجيعا لي ولا اعتراف بفضلي ،كلا بل ليسهل عليهم إخراجي من المتكلمين في الفقه وعلوم الشريعة فأنا ينبغي أن أكون آخر من يتكلم في هذه الأمور الخاصة بهم لأني أديب،لدرجة  أني أستطيع أن استبدل كلمة (أديب) بكلمة (جاهل ) فأجدها  تؤدي نفس المعنى في ذلك السياق، وحين تكلمت مع الشيخ (. .... )؛عن مسألة سياسية وأبديت وجهة نظري القائمة على قراءة معطيات من  الواقع ابتسم ابتسامة تشبه ابتسامة الفلاح أبي عبدالله وقال : يا استاذ يبدو أنك تظن الموضوع رواية رومانسية. وهنا ظهرت لي قبعة علي الوردي وهو يدعوني لانتهاز الفرصة لدراسة حالة اجتماعية، وبدون أن أشعر غصت في قراءتي للحالة بالنظر إلى بعد الإطار الفكري والطفولة التربوية،  وتأثير الهرمونات، فنسيت سخريته في خضم تأملاتي تلك وكأني أرى دماغة وتركيبته التشريحية والعقل الباطن ورغباته البعيدة عن قصة التجرد،  عشرات المرات يكرمني الله بتلك النماذج من الحالات الاجتماعية التي تحاول طردي من حضيرة العلم الشرعي والدراسات السياسية.
مسكين علي الطنطاوي فقد كان يعاني معاناة قاسية فإذا اجتمع الفقهاء قالوا له : لا مكان لك هنا فأنت أديب، وإذا اجتمع الأدباء قالوا له : لا مكان لك هنا فأنت فقيه.
وإن نسيت فلن أنسى حلقة تكونت عفويا بعد صلاة الظهر في مسجد الشرطة في البريقة أيام الحرب والنزوح،  حيث اجتمع عدد من المريدين حول شيخهم الذي يحدثهم عن الدين والسياسة والتاريخ والانثروبوجيا وعلم التشريح فلا يخطيء بحرف واحد، والمريدون حوله كأن على رؤوسهم الطير،  فكان مما قاله لهم : أتدرون لماذا قامت الثورة في ليبيا ولماذا تدخل حلف الناتو والغرب بهذه السرعة؟  فلما لم يجبه أحد،  مع أن الأسباب معروفة ، قال : السبب هو الرقم الكبير الذي تصدره ليبيا من النفط.
قلت له : لكن ياشيخ السعودية تصدر أضعافا مضاعفة مما تصدره ليبيا. فهز رأسه مبتسما وقال : لا. لا .لا . من قال لك؟ يبدو أنك غير مطلع.
قلت : السعودية تصدر في اليوم في أقل الأحوال  تسعة مليون برميل. فكم تصدر ليبيا؟
قال ::للأسف معلوماتك خاطئة ماتصدره ليبيا أضعاف مضاعفة مما تصدره السعودية وهي أكثر دولة مصدرة للنفط. فرأيت الطلاب يرمقوني مشفقين علي من جهلي  بأدنى العلوم التي يحيط بها علم شيخهم، فسكت أتامل الظاهرة.
جلست يوما مع عدد من الدعاة فجرى الكلام عن قضايا التكفير وكل أدلى بدلوه فتكلمت أنا بتفصيل هو مبلغ علمي وهو مستند في ظني إلى نتائج دراسات لبعض العلماء قديما وحديثا. هنا طبع جليسي على فخذي وقال : هذه علوم العقيدة وليست علوم شكسبير وتشيخوف وتولستوي وهنا وجدتها فرصة تأملية حيث حصلت على نموذج يمتلك تنوعا ثقافيا  ، فرشفت كأس الشاي الذي بجانبي وسبحت في تأملاتي، 
هل كان الأدب لعنة أدخلتها على نفسي منذ كان والدي يشتري مجلة العربي وأنا صغير فأذهب  مباشرة إلى باب (جمال العربية) والقصص القصيرة العربية والمترجمة، هل أخطأت حيث لم أسمع تحذيرات أمي المتكررة من كثرة القراءة حين كانت لا تكف حين تراني أقرأ أن تقول بلهجتها  (أنا فدوك عر كثرة امقراية رعك باتدرم كما درم فلان وفلان وفلان).
جف القلم