من ذكريات الصبا (2)

بقلم / أبو زين ناصر الوليدي

قصتي مع الكتب قصة غرامية قديمة، كنت كمثل العطشان الذي حرم الماء، إلا أنه يجد منه رشحات هنا وهناك لا تروي غليله، فيمصها بشفتيه، كأنها الصبابة في قاع بين صخور مدببة، تختلط فيها قطرات الماء برواسب الطين وبقايا أوراق الشجر اليابسة.

لم يكن في قريتي(منصب - أورمة- مودية - أبين ) أي نشاط ثقافي أو علمي ، وليس هناك مكتبة ولا مسجد، قرية من عشرة بيوت معزولة بين الجبال والأشجار، ربما وقعت في يدي بعض المجلات والقصص التي يجلبها بعض الجيران من عدن (ماجد، صباح الخير، زهرة الخليج، قصة قيس وليلى، الزير سالم، عنترة بن شداد ، مجلة العربي، مجلة الرياضي والصقر) لكن ذلك لم يكن بشكل مستمر .

كنت أمشي للصلاة إلى مسجد صغير قديم مبني من الحجارة في قرية ( حجر) القرية المجاورة لقريتنا، أعبر الوادي إلى طريق ترابي، يخترق أرضا مزروعة في أيام المطر، وجدباء قاحلة أيام الجفاف، أصلي العصر هناك وفي أحيان كثيرة أكون أول داخل إلى المسجد أؤذن لصلاة العصر فيستجيب للنداء عدد قليل من الصغار وأقل منه من الكبار.

في يوم من تلك الأيام(١٩٨٩م)وجدت في المسجد (كرتونا) مليئا بالكتب، لم تكن سعادتي توصف حينئذ، جاء بها رجل من عدن، وقفا للمسجد، أخذت الكرتون فقلبته رأسا على عقب لتتساقط الكتب التي يحويها في أرضية المسجد على القطيفة الخضراء الممزقة، كانت كتب مجلدة وجميلة وملونة، أخذت أتحسسها كما تتحسس العجوز العمياء وجه حفيدها، كنت أشعر بشئ من اللذة، وينتابني الخدر وأنا أداول بين يدي وعيني في تلك المجلدات، أخذت أصفُّها متراصة، وأعـدُّها مرات (واحد ،اثنين ، ثلاثة ....) .

كان المسجد فارغا من العدد القليل من المصلين الذين لم يلتفتوا إلى ذلك الكرتون . قال لي شيخ كبير (سالم الهاشلي) وكان آخر من غادر المسجد هذه ( ختم ) وقفا للمسجد، اقرءوا فيها حتى يصل الثواب إلى صاحبها، كان يظنها مصاحف بينما هي الكتب التالية : ( زاد المسلم في شرح ما اتفق عليه البخاري ومسلم) ثمانية مجلدات ، تأليف الجكني الشنقيطي، (تهذيب سيرة ابن هشام) لعبد السلام هارون، (رجال حول الرسول)، (خلفاء الرسول) لخالد محمد خالد، (رياض الصالحين) للإمام النووي ) هذا كل ما في الكرتون . لم أخرج من المسجد يومي ذاك إلا في الساعة العاشرة مساء، وهكذا كنت أفعل كل يوم، أبقى في المسجد من قبيل العصر إلى ما بعد صلاة العشاء، حتى قرأت كل مافي الكرتون . هاهو المتلمظ العطشان يجد الواحة الوارفة والظل الظليل والماء الزلال، فيقرر الإقامة هناك ليسافر عبر القرون ويعيش مع أزهى وأجمل وأروع لحظات الحياة، العصر الذهبي للإسلام إنها قصة حياة وميلاد الإسلام قصة شروق الأمل وسطوع النور من وراء التلال، قصة ذلك الشعاع السماوي الذي انبثق بين شعاب مكة وتسلل إلى دورها وأوديتها وشوارعها مصافحا الناس ومبشرا لهم بميلاد عهد جديد لسكان الأرض، مرددا أناشيد الوجود والخلود ، طار عقلي، وسالت دموعي مدرارا، شعرت أني أملك أشياء عظيمة ونادرة وكثيرة، وأني قد وضعت يدي على كنوز الأولين والآخرين، رأيت السماء جميلة والجبال بهيجة، والسحب ضاحكة والسهول راقصة، رأيت الناس يتحركون كالفراشات الجميلة بين أزاهير الربيع، أقلب أوراق الكتب، وكأنني أطير على بساط الروح، لأخترق الزمان والمكان، شعرت بجمال الحياة وبهائها، نظرت إليها بعين باسمة راضية، أشرقت شموس باطني، تحركت كوامن الحنين في قلبي إلى ذلك الزمان، كنت أعيش معهم في اليقظة والمنام.

في ليلة من الليالي رأيتني في المدينة أحفر الخندق مع الصحابة، فإذا بلال يؤذن لصلاة الظهر، فأخرج من الخندق مسرعا فأجد عددا من الصحابة قد سبقوني يتوضؤون، فأتوضأ معهم وأصلي ركعتي السنة في الصف الأول حتى أتمكن من رؤية حبيبي محمد بن عبدالله صلوات الله عليه، لكن أمي سامحها الله أيقظتني لصلاة الفجر، قلت يومها : ليتني ما قمت من منامي وبقيت بين أحبتي. عكفت حينها على القراءة والعبادة والاعتكاف في ذلك المسجد العتيق، فسكنت روحي وتنعمت خلايا قلبي، أصبحت حياتي هادئة هانئة، فحدود حياتي لا تتجاوز المدرسة والمسجد والقراءة ورعي الغنم ونفع الأهل في البيت والأرض .

بهرني (خالد محمد خالد) بسحر بيانه وعذوبة عباراته، كأني بين سطوره أرى نهرا رقراقا وعينا جارية وزهورا متفتحة، أشم رائحة الزمان والمكان، أخذني إلى جبال مكة، وأودية المدينة ، ونخيل قباء، ذهبت إلى عرفة والحجون والتنعيم، ذهبت إلى منى، تنقلت بين بيوت مكة، وفي أزقتها، وشوارعها الضيقة، ذهبت إلى أحد والبقيع، خرجت إلى وادي العقيق ووادي الأراك. ذهبت إلى سوق عكاظ، رأيت هناك الحدادين يصنعون السيوف وكأن صدى مطارقهم يرهق سمعي، والرماة يتدربون على قذف النبال، والخيام قد نصبت للشعراء، هناك رأيت الأسواق وقد فرشت فيها البضائع، والآلهة وقد قربت إليها النذور، رأيت العبيد يساقون إلى السخرة والخدمة بصبر وجلد ورضا كأنهم الجمال الذلولة، رأيت ميلاد الحياة تارة أخرى وهي تدب في الدنيا، حينما نفحت فيها الروح من صيحة (محمد) صلى الله عليه وسلم على جبل الصفاء، فإذا الناس قياما ينظرون ويتساءلون عن النبأ العظيم، عن هذه النفخة النبوية في أرواح الخلائق التي قد أرمت و استوطنت فيها جلاميد الموت، هاهي صرخة حبيبي رسول الإله عليه الصلاة والسلام تهز أرجاء مكة فتزلزل أركانها وتنعش وجدانها، فتستيقظ جذلة تمسح عينيها، وتغسل وجهها، وتفتح ذراعيها للسماء، فإذا قريش تلملم أشياءها وتحتضن خرافاتها كأنها اللص المطارد الذي يجمع مسروقاته فيحشوها في جوف مخلاته، هاهي مكة تغني مبتهجة بسريان نهر النجاة في عروقها، لكن قريشا تحاول أن تخنقها و تئد صرخة الحياة بكفها العتيق الأجرب الذي تركت عليه القرون آثارها ليكون تحفة أثرية تشير إلى زمن الجهل والخرافة، زمن العنقاء والغيلان .

هنا ينقلني (خالد محمد خالد) فإذا الوليد يكبر وينمو كما تنمو الأشجار، فيضرب بجذوره في أعماق التاريخ، فإذا هامته تداعب السحاب، فكأنه عملاق مضيء منير، كالشمس التي تطل على الدنا فتنشر أنوارها على كل جبل وسهل، على كل نجد وغور .

رأيت أصحاب محمد صلوات الله عليه وحوارييه وتلاميذه، يقطعون الفيافي والقفار، ويعبرون الأنهار منطلقين في دنيا الله، ناشرين النور والحق المبين، يحملون هدايا الرب لعبيده فيعتقونهم من استعباد الطغاة، ويطلقون سراح عقولهم وقلوبهم من سجون التيه والجهالات والأرباب، لقد عشت بروحي ونفسي وقلبي ومشاعري ودموعي وضلوعي مع (خالد محمد خالد).

 في ليلة من الليالي صليت الوتر على سطح بيتي ونمت منفردا تحت نجوم السماء، وآثار تلك القراءات تسيل في دمي فتسقي عواطفي، فرأيت في النوم كأني زرت عثمان بن عفان إلى بيته ــ وكنت حينها أقرأ في كتاب خلفاء الرسول، وأحزنني (أمر عثمان) والآلام التي تعرض لها، رأيته شيخا كبيرا جالسا على كرسي ومعه ابنته ذات الست السنوات وهو يقول لي : هذه حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تتقافز لاعبة في حوش الدار، استيقظت من نومي فإذا أنا خاوي الوفاض، لا أسمع إلا صراخ الديكة تستقبل أنوار الفجر الكاذب كأنها أحلامي الكاذبة، ومن بعيد يتردد إلى سمعي نباح الكلاب كأنها أصوات الثوار الذين حصروا بيت عثمان .

 أحببت (خالد محمد خالد) لأنني أيقنت أنه لن يكتب هذه الكلمات إلا قلب محب ويراع عاشق، ظننته شيخا كبيرا ذا لحية بيضاء يكسوها الوقار وعلى رأسه عمامة بيضاء مطوية وفي جبهته سجدة دائرية سوداء تشي بحسن صلاته بالليل والنهار. لم أكن أعلم آنذاك أن( خالد محمد خالد) لم يبلغ من الكبر عتيا، وأنه مثقف مصري يلبس البنطال والكرفته ، ولا توجد في وجهه شعره واحدة، ثم قيل بعدها أن ( خالد محمد خالد) شيوعي وأنه ألف للشيوعيين كتاب (لكي لا تحرثوا في البحر) وسمعت من الرئيس السابق (علي ناصر محمد) أن هذا الكتاب كان مقررا على ثوار الجبهة القومية اليسارية، ثم أطلعت بعدها على كتابه ( من هنا نبدأ) فإذا هو تكرار لكتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) لعلي عبد الرازق دعوة صريحة إلى الدولة المدنية الحديثة التي تفصل الدين عن الحياة، وقد نشره في عهد ( فهمي النقراشي ) رئيس وزراء مصر العلماني، ثم أطلعت على حوار الشيخ محمد الغزالي معه في كتاب الغزالي (من هنا نعلم) وهو رد على كتاب من هنا نبدأ، كنت أتعجب كيف لمؤلف رجال حول الرسول وخلفاء الرسول أن يكون علمانيا، وهو من هو في الاطلاع على حضارة الإسلام وتاريخه المنير، ثم علمت أن (خالد محمد خالد) بعد سنوات من تأليف كتابه (من هنا نبدأ) ذهب إلى الجمعية الشرعية وعين إماما للمسجد هناك لمدة أربع سنوات عاش فيها عزلة عن الحياة، منقطعا في المسجد، وكان يصلي بالناس الصلوات الخمس والتراويح، وكان الناس يزدحمون على مسجده لحسن تلاوته وجمال صوته وغزارة دموعه، ثم قدر لي أن أقرأ كتاب ذكريات خالد محمد خالد المسمى ( قصتي مع الحياة ) كتبه بقلمه، وهناك سجل اعترافه بخطئه في كتاب (من هنا نبدأ) وقال أنه ألفه نتيجة لضغط ظروف سياسية معينة وأن الشيخ الغزالي أصاب في كل ما قاله في كتاب (من هنا نعلم)، وكان في ذكرياته كما عرفته صادقا رقيقا مؤدبا عاشقا متزنا عليه رحمات الله المتتابعة وجزاه الله عني خير الجزاء وجمعنا به في دار كرامته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .