الدولة الإسلامية بين الحلم التاريخي والواقع السياسي.

أفرزت الأحداث في سوريا رغبة جامحة لدى العامة وكثير من  المثقفين في الحلم بتأسيس دولة إسلامية، بل وتصوير أن الدولة قد بدأت تباشير بيارقها تلوح في الأفق، وأن المنظور للجماعات الموجودة على الأرض، أنها ذات هدف واحد أسمى، وهو إقامة هذه الدولة التي طالما داعبت بها األباب المجتمعات. وكل ذلك بناء على تصورات مسبقة حول حتمية قيام دولة إسلامية في الشام. 

الحقيقة أن مع كل شروق شمس يحلم الشعب العربي المسلم بوجود كيان لدولة إسلامية، تستلهم التاريخ الإسلامي المجيد في عصور ازدهاره الذهبية، وتطبق شريعتها السمحاء دون تعسف وغلو .

لو رجعنا للتاريخ لوجدنا تفاوتا في الحكم على الدولة الإسلامية التي نجد لها ذكرا سطر بين صفحاته، فإذا اعتبرنا الدولة الإسلامية قامت كدولة - وحسب مفهوم الدولة - مع فتح مكة، فإن الدولة في تلك المدة كانت أقرب ماتكون إلى الجماعة الدينية منها إلى الدولة، جماعة دينية تجمعها عقيدة واحدة وشريعة واحدة، ويديرها رجل ماينطق عن الهوى، وحوله رجال آمنوا بصدقه، قبل تصديقهم لخبر السماء.
وبعد رحيله كادت أن تنفض الأمور، لولاء صلابة الرجال، وعظمة مواقفهم، وتمسكهم العميق بالدين الذي أدركوا مدى عظمته، وهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور، وأرسى قيما جعلت منهم خير أمة تهابهم فارس والروم.
فكان الصديق الذي تصدى للمرتدين، والارتداد والردة أول حركة معارضة مسلحة تواجه الدولة الإسلامية الوليدة، ولكنها كانت معارضة مارقة خارجة عن الدين والدولة.
وجاء الفاروق ليضع أسس الدولة السياسية، وينشئ بعض الدواوين ( وهي في مفهومها تعادل مفهوم الوزارات حاليا) التي تنظم العمل وتخدم المجتمع. ومد نظره بعيدا إلى بلاد كسرى وقيصر.
هذه المدة اتسمت بالارتباط الوثيق بين ما قررته الشريعة من أحكام، وبين التطبيق من قبل الحاكم/ السلطة/ الدولة لها.

وكان ما كان بعد ذلك من أحداث بعد خلافة الفاروق عمر.

ثم جاءت الدولة الأموية، وهي الأقرب إلى مفهوم الدولة الحقيقي، وحسب ما كان سائدا في ذلك العصر. ولكن لنا أن نتذكر إن الخلافات في الدين قد بلغت مابلغت، وكذا الخلافات الطائفية، والجهوية. ومع هذا قامت دولة قوية وامتدت إلى الشرق وإلى الغرب، وذلك لأنها اعتمدت على القومية العربية في المقام الأول، وكان حال الوضع يوضحه قول الشاعر:
العُرْبُ أشرف أمة    
من شك في قولي كفر.
قومية عربية رأت في الدين عزتها وعزوتها، ولن يكون لها مقام إلا به. فتركت كل الخلافات، وسارت تحت رأية جامعة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله). وهنا كانت الفتوحات، ومن هنا كان الانتصار، وكان عسكريا يعد عصرا ذهبيا. ولكن جذوة تطبيق الشريعة بدأت تخبو، وصارت السلطة السياسية/ الدولة تغض الطرف عن بعض تطبيقات الأحكام الشرعية على الأقل تجاه الطبقة الحاكمة.

ثم جاء بنو العباس يحملون دولة مزيجا من دولة فارس التاريخية بدوائرها وأنظمة الحكم، بل وعساكرها، ودولة العرب الأموية، فكانت دولة استقرار ورخاء، نما فيها العلم وازهرت المعرفة، وكان لها أن توسعت لا سياسيا وعسكريا، ولكن توسعت علميا ومعرفيا، بعد أن وضعت يدها على علوم الأمم التي دخلت تحت سلطتها، فأصبح عصرها عصرا ذهبيا معرفيا.
وعصرا ذهبيا اقتصاديا بعد ان بسطت نفوذها على رقعة جغرافية واسعة، تصب مواردها في خزائن بني العباس.
وكان الخليفة هارون الرشيد إذا ما رأى السحابة تمر فوقه يقول:
(اذهبي حيث شئت، وامطري، فإن خراجك محمول إلينا).
ثم كان أن دبت الخلافات السياسية على السلطة، وهي الأخطر.
فالخلافات السياسية على السلطة. هي من تدمر الدول، وليس الخلافات الفكرية والدينية والمذهبية، فهذه خلافات تحتويها السلطة السياسية متى ما كانت قائمة وقوية.
فكان أن غادرت المشهد دولة بني العباس، والتي لم تصمد بقاياها أمام زحف القوة العسكرية القادمة من الشرق (التتار).

فتفرقت يد العرب.
وسيطر الأغراب من مماليك وموال، وغيرهم على الدولة، ورغم الولاء للإسلام، لكن هذا لم يشفع بوجود دولة إسلامية واسعة على مثال الأمويين والعباسيين.
حتى بنو أيوب لم يستثمروا نصر صلاح الدين الأيوبي في إرساء دعائم حكم واسع.
وسلمت دولتهم لمماليكهم الذي ذهبت دولتهم هم أيضاً على يد بني عثمان، وكان أن تأسست الخلافة العثمانية.خلافة إسلامية بروح غير عربية، كان لها إيجابيات ربما هي الطاغية في مرحلتها أو مراحلها الأولى، وكان لها توسعاتها باسم استمرار الفتوحات الإسلامية التي أثلجت صدور المسلمين، ولكن الحقيقة لا تخلو من الطموحات الاستعمارية والتوسعية لبني عثمان.
كان للسلبيات الحظ الأوفر في مابعد داخليا، والأهم أن المعطيات الدولية قد تغيرت بعد الكشوفات الجغرافية ودخول عصر النهضة. وخروج المنطقة العربية من موقع المركزية الدولية موقعا جغرافيا وموقعا حضاريا، إثر ذلك عليها، وصار التواصل بين الشرق والغرب يمر عبر طرق أخرى، مما أفقد المنطقة برمته الأهمية الاقتصادية التي كانت تحتلها.
وكان الضعف الذي حدث في جسم الخلافة العثمانية بعد ذلك حتى وصفت بالرجل المريض.
ومرضها هذا عكس نفسه على الوضع الداخلي، بما في ذلك على الولايات العربية التي كانت تحت سيطرتها، ونتج عن ذلك تصرفات رعناء من الولاة الأتراك، وتولدت حالة من الرفض والاحتقان ضد الخلافة العثمانية (الإسلامية، شكلا )، فودعت الخلافة العثمانية فعليا قلوب المسلمين العرب، ووجدانهم في وقت مبكر، ثم ودعت المشهد السياسي نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك هو آخر عهد المسلمين بمسمى دولة إسلامية.

فاستغل القوميين العرب تلك الحالة فبعثوا المشروع القومي الذي وجد له قبولا، وظهر قويا في المنطقة العربية وخصوصا أن المشروع القومي وقف في وجهة الهيمنة الاستعمارية الغربية وتحديدا البريطانية وفرنسا، فبدأ يسحب البساط من تحتهما، وبدت شمساهما تلوحا في الغياب عن المنطقة..
وشعرت بريطانيا بالقلق الأكبر وخصوصا أنها كانت تضع يدها على الدول التي تتحكم بمفاصل المنطقة استراتيجيا.
لذا فقد كان عليها أن تبحث عن مشروع لديه جاذبية أكثر عند الجماهير يقف في موقف الند للمشروع القومي، فلم تجد أفضل من المشروع الإسلامي، فزرعت جماعة الإخوان المسلمين في جسد الأمة. وقدمت لها الدعم المادي والمعنوي.
( نفتح قوسين هنا لنقول :
إن هذه السياسة من بريطانيا لم تكن بدأ في نسيج المجتمع العربي، بل قد قامت بنفس الفعل مع ازدياد تنامي القومية الباكستانية، فدعمت القاديانية، كما غذت البهائية في بلاد فارس، وهناك كلام عن علاقة الشيخ محمد بن عبدالوهاب النجدي والوهابية بالمخابرات البريطانية وإن كانت تلك المصادر التى إشارت إلى ذلك مجرد تحليلات، مازالت محل جدل. 
للمزيد يجب الإطلاع على كتاب قراءة في وثائق البهائية للدكتورة عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ».
وكتاب القادياني والقاديانية للإمام الندوي) .

لقد أوضحت في مقال لي نشرته على موقع الكتروني عدني قبل عام، وأن كان المقال قديم نوعا ما نشرته في حسابي على الفيس تقريبا قبل ٢٠١٤م بعنوان ( جماعة القاعدة والمشروع الإسلامي) أوضحت أن (المشروع الإسلامي هو أحد المشاريع التي ظهرت في العصر الحديث لبناء المجتمعات العربية الإسلامية وتاطيرها بعيد حركة التحرر من ربقة المستعمر الأجنبي ، وهذا المشروع يريد إقامة الدولة الإسلامية على أسس الشريعة الأسلامية التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين .
والمشروع الثاني هو المشروع القومي ويرتكز على أساس القومية العربية بعيدا عن الانتماء الديني أو المذهبي أو الجهوي . وهناك المشروع الثالث وهو المشروع القطري الوطني ويهدف إلى تكوين الدولة في منطقة جغرافية معينة فقط على أساس طائفي أو جهوي ).
وهذا التوصيف هو اجتهاد مني، قد يختلف الآخرين معي فيه.

تبنت حركة الإخوان المسلمين المشروع الإسلامي وقدم له حسن البنا منهجا بأسلوب جذاب معتمدا على فصاحته وحسه الأدبي، فاستقطب كثيرا من العامة إليه.
ولكن الجيل التالي لحسن البنا لم يكن بنفس أسلوبه. بل أن شباب الجماعة المندفع في آخر الأربعينات أشعل نار المواجهات والعنف، والاغتيالات السياسية. أبرزها أغتيال رئيس الحكومة المصرية النقراشي باشا، مما دفع بحسن البنا إلى إصدار بيان يقول فيه بأن هولاء ( ليسوا إخوانا، وليسوا مسلمين ). ولكن حسن البنا نفسه لقي مصرعه ثارا للنقراشي.
ثم قامت الثورة المصرية، وبدأت محنة الإخوان المسلمين، سيد قطب، عبدالفتاح اسماعيل، ورفاقهم، وتم الزج بهم في السجون، فنتج عن ذلك فكر جديد للجماعة، ظهر في كتبهم ومؤلفاتهم، استدعوا فيه فكر جماعة ( الخوارج ) المعروفة في التاريخ الإسلامي، وصار العنف والإرهاب والتكفير جزءا أصيلا في فكر جماعة الإخوان المسلمين.
ثم بدأت الانشقاقات في الجماعة ليكشف المنشقيين حقيقة هذه الجماعة وعلاقتها بالداوئر الاستخباراتية الغربية، بل وعلاقة الإتصال بالماسونية العالمية، ونذكر من هولاء المحامي ثروت الخرباوي في كتابه ( سر المعبد: الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين)، ولا ننسى حديث الإمام الغزالي فى كتابه (من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث) الذي أكد فيه أنه تيقن من وجود أصابع هيئات سرية عالمية تعبث داخل جماعة الإخوان، متهما أكبر قادة الإخوان وأبرزهم المرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبى بأنهم من الماسونيين، وأن المستقبل ربما يكشف هذه الأسرار...

الجماعة الأخرى التي تبنى طرح مشروع الدولة الإسلامية هي جماعة القاعدة والجماعات التي تفرعت منها، والجماعة في أرومتها، شبابها سلفيين وهابيين، من طلاب العلم الشرعي، ولكن اندفاعهم وحماستهم، وفوران مرحلة الشباب جعلتهم يذهبون إلى جماعة القاعدة والتي بنت كثيرا من أفكارها وتصوراتها من منهج مجموعة الجيل الثاني لحركة الإخوان، وأقصد بهم سيد قطب وعبدالفتاح إسماعيل وغيرهما..
والمعروف إن مهندس وعقل تنظيم القاعدة هو الدكتور أيمن الظواهري كان ينتمي إلى الحركة الإسلامية وكان إخوانيا . 
هذه - كما أرى - هي الحركات التي تتبنى المشروع الإسلامي على الساحة

بالمقابل المشروع القومي أيضا فشل خصوصا مع تنامي المشروع الوطني القُطري، وانكفاء كل قُطر على نفسه وتأسيس دولة خاصة بها، ومع أن دول المشروع الوطني القُطري كانت ترفع سقف طموحاتها إلى المشروع القومي و( أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة). إلا أن هزيمة مصر - والتي كان فيها المشروع القومي قد وصل إلى أوج قمته بعد ثورتها ورحيل بريطانيا عن أراضيها، وتسلم جمال عبدالناصر الحكم -  في 1976م أمام إسرائيل، بدد الحلم القومي، ثم ازهقت روحه في معاهدة كامب ديفيد.

المشروع القُطري كلٌ غنى على ليلاه، وسار على منهج خاص به، تحدد ملامحه خصوصيات كل منطقة، وعلاقاتها مع الدول الأخرى.
وهذا هو المشروع الذي ساد بلاد العرب منذ الخمسينات بعد حركات التحرر من المستعمر الغربي.
ولكن في الحقيقة أن لا دولة من هذه الدول العربية جميعا تبنت العلمانية الفجة منهجا لها، كما يحاول أن يصور بعض المتأسلمين، وكثير من العامة عن عدم دراية، وذلك للجهل بمفهوم الدولة العلمانية. 
ولكن جميعها كانت أقرب إلى الدول المدنية حيث كان ثمة ارتباط بين الدين والمجتمع لم تحاربه الدولة/السلطة، بل حاولت أن تكسب المجتمع بتمرير كثير من قضايا الدين في صلب الدولة/ السلطة، كأن لم تحارب الشعائر الدينية مثلا، وكانت تشارك في بعضها.

كل تلك المراحل  التي عرضنا لها لم تكن فيها العلاقة بين الدين والدولة على نفس الطموح الذي ننشده الآن، بل هناك حالات تراخي واضحة بين الدين والدولة، تتراوح من اقتراب إلى ابتعاد، باستثناء مرحلة النبوة والمرحلة الراشدية وبعض الفترات في المراحل التي عرضنا لها.
ولكن يبقى طموح الأمة في إقامة دولة إسلامية تسير فيه على نفس نهج الخلافة الراشدية، بما تمثله من قيم سامية، وتطبيقا للشريعة يتجدد يوما بعد يوم.

    الحميشة منتصف ديسمبر 2024