الخطاب الدعوي بين الأولويات الشرعية وفقه الواقع
القى أحدهما بعد الصلاة موعظة عن "وأد البنات"، وآخر ألقى درسا حول "رحمة الخدم والرفق بهم". ألقى كل منهمت موضوعه بشكل درامي مؤثر في السامعين؛ مما يدل على تمكنهما من الإلقاء وتمرسهما. لكنهما يبدو أنهما غير منتبهين أن "وأد البنات" لم يعد له أثر منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم! وأننا في مجتمع لا يكاد يجد لقمة عيشه فكيف يكون له خدم! فلسنا في مدن "الخليج" المترف! ولا نحن في زمن أبي جهل وهبل! ويبدو أنه فقط تم نسخ ولصق النص والتدرب على إلقائه بشكل يعجز حتى أكبر ممثل عن محاكاته! ومثل هذا كثير من المحاضرات والخطب...
إن الدعوة إلى الله تعالى أمانة عظيمة تتطلب من الداعية فقها في الدين ووعيا بالواقع. فلا يجوز أن ينشغل الداعية بقضايا هامشية أو تاريخية بينما يعاني المجتمع من مشكلات كبرى كالفقر والظلم والفساد. إن ترتيب الأولويات في الدعوة أصل شرعي، علمنا إياه رسول الله ﷺ، الذي بدأ دعوته بتوحيد الله ونبذ الشرك، ثم انتقل إلى إصلاح المجتمع، فحارب الظلم وحرم استغلال الفقراء ونادى بالمساواة والعدل.
فقه الواقع هو فهم الأحوال والظروف المحيطة بالمجتمع، من مشكلات وتحديات وظواهر، ثم تنزيل الأحكام الشرعية عليها بشكل صحيح ومناسب، مع مراعاة المصالح والمفاسد. فهو يجمع بين فهم الشرع وفهم الواقع، ليتمكن الخطاب الديني من معالجة قضايا الناس بشكل عملي وواقعي. وهذا الفقه ضروري لتوجيه الخطاب الديني إلى القضايا الحقيقية التي يعاني منها المجتمع، بدلا من الانشغال بقضايا تاريخية أو افتراضية.
من مظاهر ضعف الخطاب الدعوي اليوم أن بعض الدعاة يركزون على قضايا ماضية لا وجود لها في حياة الناس، كالخدم أو أحداث تاريخية انتهت بانتهاء عصورها. في حين أن المجتمع يعاني من مشكلات جلية تحتاج إلى حلول عاجلة، مثل:
- انتشار الفساد؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ﴾ [البقرة: 188].
- ومثل ظلم الفقراء، وقد حذر النبي ﷺ من الظلم فقال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ» [صحيح مسلم].
- ومثل غياب العدل الاجتماعي؛ فالعدل هو أساس استقرار المجتمعات، وقد أمر الله به في قوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ﴾ [النحل: 90].
إن إهمال المشكلات الواقعية يؤدي إلى نتائج خطيرة، منها:
- فقدان ثقة الناس بالدعاة؛ فعندما لا يجد الناس في الخطاب الديني ما يمس قضاياهم الواقعية؛ يفقدون الثقة فيه.
- تفاقم الظلم والمعاناة؛ إذ أن ترك الظلم دون مواجهة يزيد من معاناة المظلومين.
- إضعاف دور الإسلام في الحياة. والإسلام دين شامل، وتجاهل القضايا الواقعية يضعف دوره في الإصلاح اجتماعي.
لقد كان النبي ﷺ يعالج مشكلات الواقع بحكمة. فعندما وجد قريشا تظلم الفقراء والضعفاء، قال: «أَيُّمَا أَهْلِ عَرَصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ». وعندما انتشر الغش في الأسواق، حذر منه قائلاً: «مَن غَشَّنا فليس مِنَّا».
فعلى الدعاة أن يركزوا على معالجة القضايا الكبرى التي تؤثر على المجتمع بشكل مباشر، مثل:
- مواجهة الفساد، وبيان خطورته وأثره على المجتمع، مستشهدين بقول النبي ﷺ: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
- إحقاق العدل؛ فالعدل هو أساس استقرار المجتمع، وقد كان من أولويات الخلفاء الراشدين.
- وجوب أن يكون للخطاب الدعوي دور في توعية الناس بحقوقهم، كحقوق المرأة في الميراث مثلا الذي حرمت منه في عدة مناطق تموج بأمثال هذين الواعظين.
والقرآن الكريم يحث على التفكر والتدبر في أحوال الناس والمجتمع، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]. فالتدبر يقتضي فهم الواقع لتنزيل أحكام القرآن عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي واقع الناس وظروفهم في توجيهاته وأحكامه. فعندما سئل عن أفضل الأعمال؛ أجاب بما يناسب حال السائل؛ فتارة يقول: «الصلاة على وقتها»، وتارة يقول: «الجهاد في سبيل الله»، وتارة يقول: «بر الوالدين». وهذا يدل على مراعاة الواقع في الخطاب الديني.
- وكان السلف الصالح يهتمون بفقه الواقع في فتاويهم وأقوالهم. فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يعرف الإسلام إلا أهل الفقه، ولا يعرف الفقه إلا أهل الورع". والفقه هنا يشمل فهم الواقع وتنزيل الأحكام عليه.
فبدلا من الحديث عن أحكام فقهية تاريخية لا تمس واقع الناس، يجب على الخطاب الديني أن يتناول قضايا حقيقية مثل:
- التوعية بمخاطر الرشوة والاختلاس والنهب، والدعوة إلى النزاهة والشفافية.
- الدعوة إلى العدل والمساواة وحماية حقوق الإنسان، ومحاربة جميع أشكال الظلم والتمييز.
- تقديم حلول شرعية للمشكلات الاقتصادية، كالبطالة والفقر والغلاء، والدعوة إلى التكافل الاجتماعي والتراحم بين الناس.
وخلاصة القول: أن الخطاب الدعوي الذي لا يعالج مشكلات الواقع هو خطاب قاصر، لأنه لا يحقق مقاصد الشريعة. ويجب أن يكون الدعاة في صف المظلومين، وأن يرفعوا أصواتهم في وجه الفساد والظلم، مستلهمين منهج النبي ﷺ في الدعوة. وفقه الواقع ضرورة حتمية للخطاب الديني، ليتمكن من تحقيق وظيفته في إصلاح الفرد والمجتمع. فعلى الدعاة والعلماء أن يفهموا واقع الناس وحاجاتهم، وأن يوجهوا خطابهم لمعالجة قضاياهم الحقيقية، مستندين إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهدي السلف الصالح.
نسأل الله أن يوفق الدعاة إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعلهم مفتاحا للخير مغلاقا للشر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ودمتم سالمين!