جوهر الصيام
رمضان، شهرٌ تتجلى فيه النفحات الإيمانية، وتُفتح فيه أبواب الرحمة، هو فرصةٌ ثمينةٌ لتزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، ومدرسةٌ إيمانيةٌ تُربي الإنسان على التقوى والخضوع لأوامر الله. ولكن، قد يغفل البعض عن جوهر الصيام الحقيقي، ويختزله في مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، متناسين أن الغاية الأسمى منه هي تحقيق التقوى، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فكيف يتحقق الصيام الحق إذا كان اللسان يطلق العنان للغيبة والكذب، أو كانت الجوارح غارقة في المحرمات؟! إن الإمساك عن الحرام في رمضان أولى وأوجب من مجرد الإمساك عن الحلال، إذ لا قيمة لصيام يقتصر على الجوع والعطش دون تهذيب النفس وكفّها عن المعاصي.
الصيام في جوهره ليس مجرد كفّ عن المفطرات الحسية! بل هو مدرسة تربوية تهدف إلى تهذيب النفس، وكبح الشهوات، وترويض الروح على الطاعة. وقد نبه النبي ﷺ إلى خطر الاقتصار على الصيام الظاهري دون تحقيق مقاصده العظمى، فقال: «رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش». وقد أدرك السلف الصالح هذه الحقيقة، فكانوا يرون أن الصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب؛ بل يمتد ليشمل الامتناع عن الكذب، والغيبة، والبهتان، والظلم، وغير ذلك من الآفات التي تفسد الصيام؛ قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "إذا صمتَ، فليصمْ سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء".
إن الصيام ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق التقوى؛ فمن لم ينضبط سلوكه خلال رمضان؛ فإنه قد يخسر ثمرة صيامه. يقول ﷺ محذرا: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
الغيبة والنميمة من الكبائر التي تفسد القلب وتضيع الأجر، قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾. وقد قرن النبي ﷺ شهادة الزور بالشرك بالله، فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين – وكان متكئًا فجلس – فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور».
الظلم وأكل أموال الناس بالباطل من الذنوب العظيمة التي تستوجب العقوبة الإلهية، قال ﷺ: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة». وإطلاق البصر فيما حرّم الله، قال تعالى فيه: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾. ومن كان يحافظ على صيامه ويتهاون في صلاته، فإنه لم يفهم جوهر العبادة.
وليس من العقل أن يمسك الإنسان عن الحلال، ثم يطلق العنان لنفسه في الحرام، فقد قال بعض السلف: "أهون الصيام ترك الطعام والشراب". فالصيام الحقيقي ليس فقط صيام الجسد عن المفطرات؛ بل هو صيام القلب عن الشهوات، وصيام الجوارح عن المحرمات. فأي قيمة لصيام الجسد إذا كان القلب ملوثا بالحقد والحسد؟! وأي أجر لمن يحرص على ضبط طعامه وشرابه لكنه يطلق لسانه في أعراض الناس؟! إن الصيام الذي يقتصر على الجوع والعطش لا يختلف كثيرا عن الحمية الغذائية، لكنه يفقد روحه إذا لم يتحقق فيه معنى التقوى والورع عن الحرام.
وحتى يكون صيامنا حقيقيا، علينا أن نسعى لتحقيق الإمساك عن الحرام، وذلك من خلال:
- التأمل في أعمالنا، وتجنب ما يفسد صيامنا من المحرمات والذنوب.
- مجاهدة النفس والتدريب على ترك المحرمات؛ فرمضان فرصة عظيمة للتمرن على الطاعة وكبح الشهوات.
- الإكثار من الذكر والاستغفار وتلاوة القرآن؛ فهذه الأعمال تعين على صرف القلب عن المعاصي والانشغال بما ينفعه.
- تذكير النفس بأن رمضان مدرسة لإصلاح القلب والجوارح، وليس مجرد طقس سنوي نمارسه دون تغيير حقيقي في حياتنا.
- مصاحبة الصالحين والبعد عن رفاق السوء؛ فالصحبة الصالحة تعين على الخير، وتبعد المسلم عن الانحراف.
ختاما؛ رمضان ليس شهر جوع وعطش؛ بل هو شهر التربية والتقوى، وقد قال ﷺ: «إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفثْ ولا يصخبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتلهُ، فليقلْ: إني صائمٌ». فمن أراد أن ينال ثواب الصيام كاملا، فليجعل رمضان نقطة انطلاق لتغيير حقيقي في حياته، لا مجرد فترة مؤقتة يعود بعدها إلى سابق عهده.
نسأل الله أن يجعلنا من الصائمين حقا، ومن المتقين صدقا، وأن يوفقنا لصيام الجوارح والقلوب كما وفقنا لصيام البطون عن الطعام والشراب!
ودمتم سالمين!