إحياء السنن: طريق العودة إلى النور
الحياة الحقيقية ليست مجرد نبضات القلب وحركة الجسد، بل هي استجابةٌ لله ورسوله، واتباعٌ لمنهاج الحق الذي جاء به النبي ﷺ، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]. ولكن، ويا للأسف! كم من سنةٍ نبويةٍ غابت بين طيات العادات المستحدثة والممارسات الاجتماعية التي لا أصل لها في الدين، حتى صارت السنن غريبةً بين أهلها، وبات المنكر مألوفا، والمعروف مهجورا!
إن قضية إحياء السنن ليست مسألةً شكليةً أو تكميلية، بل هي جزءٌ من صميم الدين، وهي الصورة الحقيقية للاقتداء برسول الله ﷺ، والسير على خطى السلف الصالح. ومن السنن التي طالتها يد النسيان وأحاط بها الجهل: التثويب في أذان الفجر، والأذان الأول للجمعة.
التثويب هو قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم"، وقد شُرع في الأذان الثاني للفجر، أي الأذان الذي يُرفع بعد طلوع الفجر الصادق، وليس قبله. يدل على ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ بِلالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» (رواه البخاري، حديث رقم: 617). وكان ابن أم مكتوم يؤذِّن بعد دخول الوقت الشرعي للفجر، وهو الذي كان يُضيف التثويب إلى أذانه.
إذن، فالتثويب لم يكن في أذان بلال الأول، الذي كان يهدف إلى تنبيه الناس لقيام الليل وإيقاظ الصائمين للسحور، بل كان في الأذان الثاني الذي يعلن دخول وقت الصلاة. وعليه، فإن وضع التثويب في الأذان الأول خروجٌ عن الهدي النبوي، وخلطٌ بين المقاصد الشرعية. وقد نقل ابن قدامة في "المغني" إجماع العلماء على أن التثويب يكون في الأذان الثاني بعد الفجر، مما يؤكد أن تغييره مخالفةٌ واضحةٌ للسنة.
ومن السنن التي تلاشت في كثيرٍ من المساجد، الأذان الأول للجمعة، ذلك الأذان الذي سنَّه الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما كثر الناس، فزاد أذانا قبل دخول الإمام تنبيها واستعدادا للصلاة، كما ورد في صحيح البخاري.
إلا أن البعض رأى أن هذا الأذان بدعة، بحجة أنه لم يكن في عهد النبي ﷺ، بينما رأى آخرون أنه كان مرتبطا بزمان عثمان رضي الله عنه، ولا حاجة إليه اليوم. غير أن النبي ﷺ قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» (رواه أحمد، وحسنه الألباني). وعثمان أحد هؤلاء الخلفاء المهديين، ومن هنا، فإن فعلَه سُنةٌ متبعةٌ لا يجوز إهمالها بلا موجبٍ شرعي.
وقد أكد العلماء أن الأذان الأول للجمعة يحقق مصلحةً عظيمة، حيث يساعد على تنبيه الناس للاستعداد للصلاة، خاصة في زمننا الذي كثرت فيه المشاغل وتعددت الملهيات. وقد أقرَّ الصحابة هذا الأذان ولم ينكروه، مما يدل على مشروعيته واستمراره كجزءٍ من سنة الخلفاء الراشدين. يقول ابن عثيمين رحمه الله: "الأذان الأول سنة سنَّها الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفضلُه واضحٌ في تهيئة الناس لصلاة الجمعة" (تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة، ج2، ص 210).
وهذا الأذان لا يتعارض مع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]، لأن المقصود بالنداء هنا الأذان الثاني الذي يُرفع عند دخول الإمام، أما الأذان الأول فوظيفته التمهيد والتنبيه، مما يجعله عاملاً مساعدًا في تحقيق المقصد القرآني.
إن هجر السنن النبوية له أسبابٌ كثيرة، منها:
- الجهل بالسنة؛ فكثيرٌ من الناس لا يعلمون أن التثويب مشروعٌ في الأذان الثاني فقط، وأن الأذان الأول للجمعة سنةٌ راشدة.
- التقليد الأعمى؛ حيث يتبع الناس العادات المتوارثة بلا تمحيصٍ أو رجوعٍ إلى الدليل. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ يربو فيها الصغير، ويهرم عليها الكبير؟!" (رواه ابن المبارك في الزهد).
- الانشغال بالخلافيات: حيث يُثار الجدل حول بدعية بعض السنن بدل العمل بها، مما يؤدي إلى هجرها.
4. عدم إدراك المصالح الشرعية؛ فالبعض يظن أن الأذان الأول للجمعة لم يعد ضروريا اليوم، مع أن الحاجة إليه قائمةٌ بسبب زحام المدن وتشعب الأعمال.
إن إعادة السنن المهجورة تحتاج إلى جهدٍ مشتركٍ بين العلماء والمؤذنين وعامة الناس، وذلك عبر:
- التوعية بالدليل الشرعي؛ كما قال الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
- توجيه المؤذنين؛ ليُراعوا مواضع التثويب ويعيدوا الأذان الأول للجمعة وفق السنة.
- التطبيق العملي؛ بإحياء هذه السنن في المساجد الكبرى، كما هو الحال في المسجد النبوي اليوم.
- النصح بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فقد قال النبي ﷺ: «الدين النصيحة» (رواه مسلم).
إن إحياء هذه السنن ليس مجرد التزامٍ بأشكالٍ ظاهرية؛ بل هو طريقٌ لتحصيل الأجر العظيم، كما قال ﷺ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ، كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني). ومن الثمار العظيمة لإحياء السنن:
- محبة الله ورضوانه؛ لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].
- وحدة الأمة؛ حيث تؤدي السنن إلى توحيد الشعائر وتقليل الخلافات.
- التيسير على الناس؛ فالأذان الأول يُذكّر المنشغلين باستعدادهم للصلاة، والتثويب في موضعه الصحيح يُؤدي إلى الالتزام بالسنة.
ختاما؛ نقول؛ إن مسؤولية إحياء السنن لا تقع على عاتق العلماء والمؤذنين وحدهم؛ بل هي مسؤوليةٌ جماعيةٌ يشترك فيها الجميع. فلنكن أهل سنة، متمسكبن بهدي النبي ﷺ؛ نكن من الفائزين في الدنيا والآخرة. ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُو۟لَٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ [النساء: 69].
ووفق الله الجميع!
وأدام سلامتهم.