؛متُّ قاعدًاً..

بقلم. عبدالعزيز الحمزة

مأساة المتقاعدين بين نكران السلطة المحلية وجحود الحكومة
حين خرجتُ من المسجد بعد صلاة الظهر، كان هو أيضًا يخطو خارجه بخطى ثقيلة، كأنها تحمل على ظهرها أعمارًا من التعب.
سلمتُ عليه كعادتي كلما التقيته، فبادلني التحية بصوت خافت، وابتسامة شاحبة سرعان ما اختنقت في ملامح وجهه الذي نحتته السنين بيدٍ من وجعٍ ويدٍ من صبر.
نظرتُ في عينيه، فرأيت ألمًا مضمورًا، وجراحًا لا يُحدّها الكلام.
سألته عن حاله، فابتلع تنهيدة، وقال بكلمات كالسكاكين:
"متُّ قاعدًا..."
هنا، لم تكن الكلمات مجازًا ولا استعارة، بل وصفًا دقيقًا لحال فئةٍ منسية، طالما حملت الوطن على أكتافها، واليوم تُركت عند هوامشه...
إنها شريحة المتقاعدين.
رجالٌ ونساءٌ أفنوا زهرة أعمارهم في خدمة هذا الوطن، علموا أبناءه، وطببوا مرضاه، وبنوا مؤسساته، وسهروا على أمنه ونظامه، فماذا وجدوا حين تقاعدوا؟
تجاهل، وتهميش، ورواتب لا تكاد تكفي لدواء، فضلًا عن دواليب الحياة.
أي مأساةٍ أعظم من أن يشيخ الإنسان وهو يشعر أنه عالة على وطنٍ بناه؟
أي جحودٍ أكبر من أن يُكافأ العطاء بالتجاهل، وتُقابل سنوات الكدّ والعناء بفتاتٍ من الراتب يُصرف أحيانًا بتأخير، وكأنه صدقة تُمنّ لا حقٌّ يُصان؟
إنها مأساة لا تصرخ، لكنها تخنق.
مأساة من نوعٍ آخر...
لا تُنقل على الشاشات، ولا تُدوَّى في الخطب، لكنها تسكن وجوههم الصامتة، وتمشي في خطواتهم المثقلة، وتطل من نوافذ بيوتهم التي يعلوها الانتظار، انتظار من يتذكّرهم... أو يحنو.
وعلى الحكومة، بل على كل صاحب قرار، أن يتحمّل مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية والوطنية.
فمن العيب، بل من العار، أن يقدَّس التافهون، ويُغدَق على بعض المسؤولين رواتب خيالية بالعملة الصعبة، وهم يسرحون ويمرحون خارج الوطن، بين المصايف والفنادق، بينما المواطن يتجرّع مرارة الفقر، ويبحث عن دوائه بين صيدليةٍ مغلقة ومستشفى منهك.
كيف يُنفق على المظاهر، ويُهمل الجوهر؟
كيف يُعزَّز من لم يُنجز، ويُنسى من بنى وعلّم وخدم وأخلص؟
ما جدوى الشعارات إن كان الوقار يُسلب من أهله؟
أيها القابضون على الذكرى، أيها المتقاعدون، يا حماة الأمس…
نحن نشهد أنكم أديتم، وبنيتم، وضحيتم، وآن لكم أن تكرموا…
فالعطاء لا يُقابل بالإهمال، والتضحية لا تُرد بالإهانة.
نداءٌ إلى كل قلبٍ حيّ، وكل عقلٍ مسؤول:
أعيدوا لهذه الشريحة كرامتها، فإن في أعينهم حكمة السنين، وفي ظهورهم آثار الجهد الطويل، وإن من يُهينهم إنما يُهين ذاته وتاريخه ومستقبله.
"متُّ قاعدًا..."
قالها الرجل، ومضى...
لكن الذكرى لن تموت،
والكرامة يجب أن تُبعث،
وما أظلم سلطات تُشيّع رجالها الأوفياء بلا عُرفان،
وما أعدلها إن أنصفتهم في حياتهم،
فهلّا أنصفناهم…
قبل أن يُكتب على أبواب منازلهم:
"هنا عاش من نسيته الدولة"
_________
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الاثنين ١٤ ابريل ٢٠٢٥م