ما بين أخدود ذو نواس الحميري ، وأخدود النتن ياهو يستعلي الإيمان ، وتنتصر القيم ،،
بقلم: سعيد سالم الحرباجي
أفرد الله سبحانه في كتابه سورة كاملة للحديث عن قصة أصحاب الأخدود ، وَسُمَّيَتٔ تلك السورة بسورة ( البروج) .
والتي يقسم الله في مطلعها { بالسماء ذات البروج ، اليوم الموعود ، وشاهد ومشهود } .
والإشارة هنا بذكر أبراج السماء ، واليوم الموعود ، توحي بشناعة الفعلة ، وفضاعة الجرم الذي ارتكبه أولئك المجرمون بتلك الفئة المستضعفة .
لذلك كان جواب القسم { قُتِلَ أصحاب الأخدود } أي لُعِنَ أصحاب الأخدود .
وهي لفتة تدل على غضب الحليم سبحانه على تلك الفعلة ، وفاعليها ، كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليها .
ذلك ما كان من قصة نصارى نجران وملكهم ذو نواس الحميري الذين خدوا الأخاديد في الأرض وأضرموا فيها النيران ليلقوا فيها كل من كفر بدينهم ، وآمن بالله سبحانه وتعالى.
وهي فعلة شنيعة ، وجريمة تقشعر منها الأبدان ..
فلقد خدُّوا أخاديد عظيمة وملؤها بالنيران الضخمة...
فكانوا يأتون بالمؤمن ...فيخيروه بين الرجوع عن دينه ، أو الرمي في تلك النار التي تطاول السماء...وأمامه ثوان يفكر فيها لا غير ..
ومع ذلك يثبتون على دينهم ، ويصرَّون على عقيدتهم ، ولا يزعزعهم لهب النار المخيف .
موقف فوق قدرات التخيل العقلي ، لحظات تعجز الكلمات عن التعبير عنها ، ثبات أسطوري
يصعب رسم صورة تقريبة لحقيقته .
إجرام ما بعده إجرام ، وتوحش ما بعده توحش ...
يأخذون الرجل ، والمرأة ، والطفل ، والشايب
فيرمونه حياً في تلك النيران الهائلة !!!
والتهمة الوحيدة ، والذنب الذي ارتكبه ...أنه آمن بالله الواحد الأحد قال تعالى:
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
والأشد إيلاماً ، والأكثر وجعاً ...أنهم يشاهدون تلك الأفعال الإجرامية ، ويتلذذون بها ، ويتمايلون طرباً لصيحات الضحايا .
قال تعالى :( إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمين شهود) .
فيا لشناعة الكفر !!!؟؟
ومع كل ذلك الإجرام ، ومع كل تلك المناظر البشعة ، تتدخل المشيئة الإلهية لتطمئن المؤمين
بأنَّ هناك عيناً ترى ، ورباً يراقب ، وعدالة تتابع
ما يحل بهم قال تعالى:
( والله على كل شيء شهيد) .
وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين ، فالله كان شهيداً... وكفى بالله شهيدا.
وهكذا تنتهي رواية تلك القصة وقد " ملأت القلب بروعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض" !!!
هذه الآيات كانت تتنزل على الصحابة وهم يُعذبون في مكة ، وكانت بمثابة التسلية لهم ، وتعزيزاً لثقة الإيمان في قلوبهم ، وعوناً لهم على الصبر .
لقد كان بإمكان تلك القلة المؤمنة أن تتراجع
في واقعة الأخدود ، وكان بإمكان الصحابة في مكة أن يعدَّلوا من عنادهم أمام عتاولة قريش ، وكان بإمكان الجميع أن ينجوا بحياته مقابل هزيمة الإيمان .
ولكن ...
" كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟
وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير....
معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد " !!!
إنه معنى كريم جداً ومعنى كبير جداً هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ...
ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟
فيستعلي الإيمان ، وتنتصر العقيدة ، وتربح معاني الثبات ، والصبر ، والاحتساب.
وهنا يكمن سر العقيدة عندما تُخالط بشاشة القلوب ، وتستولي على خلجات النفس ، وتعانق هتافات الروح !!!
ربما يبدو للبعض أنَّ حادث الأخدود ، ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة ، وقصة سادرة وانتهى الأمر ..
لكن المقصد أعمق من ذلك بكثير،،
إنها معركة العقيدة ، وصراع الإيمان ، ومرثون القيم ، وسباق المباديء ...التي لا ينتصر فيها إلا من ذاق طعم الإيمان ، وتذوقه حقيقةً لا قولاً .
الإيمان الذي تتحطم على أسوراه كل قوى الطاغوت مهما عظمت ، وتتضاءل أمامه كل مغريات الدنيا وإن عُرضت ، ويرخص لأجله كل غالِِ ونفيس .
يظن مطموسو القلوب وأغبياء الفكر ... أنَّ إحراق أولئك العزل من النساء ، والأطفال ، والشيوخ في النار هو انتصار لقوى الطغيان..
لكنه في الحقيقية انتصار للعقيدة التي لم تستسلم لجبروتهم ، ولم تُذعن لتهديدهم ، ولم تخضع لأفعالهم الإجرامية !!!!
إنه انتصار للإيمان ، انتصار للقيم ، انتصار للمبادئ ، انتصار للحق، انتصار للخير ..
وهزيمة لقوى الشر التي لم تستطع أن تثنيهم عن قناعاتهم .
وهاهو التأريخ يعيد نفسه اليوم - وإن اختلفت وسائل الإحراق - وهاهو النتن ياهو يعيد تاريخ ذو نواس المجرم ، ويحرق المؤمنين في غزة
بوسائل أشد إيلاماً ، وأعتى قوة ، وأقسى إجراماً .
وفي المقابل يعيد مؤمنو غزة المشهد عينيه ، ويكرروا الموقف نفسه ، ويثبتوا الثبات ذاته...
ليؤكدوا لمجرم اليوم أنَّ الإيمان أقوى من أسلحته ، وأنَّ عقيدتهم أعتى من وسائله الخسيسة ، وأن صبرهم أشد من إجرامه الطاغي.
فيا لروعة الإيمان عندما يستولي على القلوب ، ويتربع على النفوس !!!
فلا عجب اليوم أن نرى تلك الفئة المؤمنة في غزة ، وهي تجسد معاني الإيمان ، وتترجم قيم الإسلام ، وتتحلى بمفاهيم العقيدة ...
فتستعلي بإيمانها على جراحها ، وتنتصر على عدوها بثباتها ، وتهزم شانئيها بصبرها .
كل تلك المعاني الرائعة ، السامية ، الجميلة يتذوقها المؤمن ...فترخص معها قيمة الحياة بلا حرية .