الزراعة.. عبادة وبناء لحياة أفضل

حين نسمع كلمة "الزراعة"، قد يتبادر إلى أذهان البعض أنها مجرد مهنة أو قطاع اقتصادي، شأنها شأن أي عمل آخر. لكن الحقيقة أعمق بكثير؛ فالزراعة في الإسلام ليست فقط وسيلة للعيش؛ بل هي عبادة تُقرب من الله، وسلوك حضاري راقٍ، وأساس من أسس تعمير الأرض واستقرار المجتمعات.

والإسلام اهتم بالزراعة ورفع من شأنها؛ لا باعتبارها مجرد عمل بدني؛ بل لأنها تثمر نفعا واسعا إذا اقترنت بالنية الصادقة والعمل المخلص. فهي تُطعم الجائع، وتُسهم في الاكتفاء، وتُحيي القرى، وتُعزز من استقلال الأمة.

وقد نبهنا صلى الله عليه وسلمذ إلى القيمة العظيمة لهذا العمل، فقال: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة» [رواه مسلم].
تأملوا جمال هذا المعنى! عمل بسيط كغرس شجرة، قد يتحول إلى عبادة مستمرة، وأجر لا ينقطع، طالما أن فيه نفعا لأي مخلوق من مخلوقات الله.

وفي كتاب الله، نقرأ قوله تعالى: ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾ [هود: 61]، أي طلب منكم أن تعمروها. والزراعة من أجمل صور هذا الإعمار؛ فهي تحفظ الاستقرار، وتحول الأرض الجرداء إلى جنان خضراء. وقد فهم علماؤنا هذا المعنى بدقة؛ قال ابن عاشور: "الاستعمار هو طلب عمارتها بالزراعة والبناء والمعاش، وهو من مقتضيات الاستخلاف".

واليوم، ومع ازدياد الأزمات الاقتصادية وتهديد الأمن الغذائي، تعود الزراعة لتكون صمّام الأمان، وسلاحنا الأول ضد التبعية. والإسلام علّمنا ألا نعتمد على غيرنا في أساسيات حياتنا. ولنا في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبرة: "لو تَجَرَّدَ الفقرُ رجلاً لقتلته" [مصنف ابن أبي شيبة]. والزراعة اليوم أداة فعالة لمحاربة الفقر والبطالة، وجسر حقيقي لإعادة الحياة إلى قرانا وشبابنا.

والإسلام لم يقتصر على الحثّ على الزراعة، بل وضع لها ضوابط تحفظ بركتها. نهانا عن التبذير والإسراف، فقال تعالى: ﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾ [الأعراف: 31]. كما دعانا إلى احترام البيئة وحمايتها، لأن كل عمل فيه حفظ للموارد والناس، هو من شعب الإيمان.

وتاريخنا الإسلامي مليء بالنماذج المشرقة. لم يكن المسلمون مجرد مزارعين؛ بل كانوا روادا في تطوير هذا المجال. من الأندلس إلى العراق، بنوا السدود، وابتكروا أنظمة ري، واهتموا بالوقف الزراعي لخدمة الناس. وابن خلدون وصف الزراعة بأنها: "أساس العمران، ومصدر الغذاء، وسبب الرزق".

ومن هنا؛ فإن دعم الزراعة مسؤولية جماعية. على الدولة أن تقف مع الفلاح، وتوفر له الوسائل الحديثة، وعلى الشباب أن يعيدوا اكتشاف هذا الميدان؛ لا كعمل تقليدي؛ بل كمستقبل واعد. والتعليم الزراعي والبحث العلمي هما مفتاح التطوير. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده» [رواه البخاري].

ختاما، تبقى الزراعة في الإسلام جسرا يجمع بين عبادة الله وخدمة الإنسان. إنها طريق نحو الاكتفاء والكرامة والاستقلال، ووسيلة لنغرس في الأرض الخير، كما نغرس في أنفسنا القيم.

فلنمدّ أيدينا للأرض بمحبة، ولنجعل من الزراعة عبادة نمارسها بوعي، ونطلب من الله أن يبارك في أرزاقنا وأعمالنا، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.
ودمتم في خير، وعطاء، وطمأنينة.