مسؤوليتك الفردية في المجتمع

في خضم أزمات متلاحقة وانهيارات قيمية وتربوية واقتصادية تشهدها مجتمعاتنا المعاصرة؛ يتصدر مشهد العجز الجماعي ثقافةٌ مدمّرة تتردد على الألسنة: "ما شأني؟"، "وماذا سيغيّر فعلي؟"، "فلننتظر من يملك القرار!". هذه العبارات لم تكن يوما من قاموس النهضة، ولا كانت من مفردات المصلحين. إنها اختزال مرير لانهيار الحس بالمسؤولية الفردية، أحد أهم روافد التغيير المجتمعي؛ بل أساسه الصلب!

المسؤولية الفردية في الإسلام ليست ترفا أخلاقيا؛ بل أصل من أصول الإيمان. إنها شعور داخلي يدفع الإنسان إلى المبادرة، ومحاسبة النفس، والعمل بصدق دون انتظار ثناء أو أمر مباشر. وقد أرشدنا القرآن إلى هذا المبدأ العظيم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. فالتغيير يبدأ من الداخل، لا من قرارات خارجية فقط.
وفي الحديث النبوي، قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» [رواه البخاري ومسلم]. فالفرد، أيّا كان موقعه، مسؤول عن جزء من بناء المجتمع، ولا يجوز له التنصل.

وقد جسّد الصحابة هذا المفهوم عمليا، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال: "لو أن دابة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها، لمَ لمْ تمهّد لها الطريق؟" [حلية الأولياء: 7/64]. إنه الوعي الفردي العميق، الذي لا ينتظر القوانين؛ بل تنبعث منه المسؤولية من أعماق النفس.

إن غياب هذه القيمة العظيمة يؤدي إلى تفشّي الفساد، وغياب المبادرة، واعتياد الاتكال على غيرنا. تتعطّل مشاريع الإصلاح، وتُوأد الأفكار العظيمة في مهدها؛ لأن الجميع ينتظر "من يبدأ". وبهذا الشكل، لا تنهار فقط الأنظمة؛ بل تُشلّ المجتمعات.

وثمة منطلقات تربوية ونفسية كفيلة ببناء هذا الشعور؛ منها:
- غرس قيمة "الأثر الفردي"؛ أن تؤمن بأن عملك -مهما بدا صغيرا- له أثر، كما قال الشافعي: "اعمل لنفسك كما لو كنتَ وحدك، فإنك وحدك تُحاسب".
- الإيمان العميق برقابة الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [رواه مسلم].
- تصحيح المفاهيم الخاطئة؛ كقول بعضهم: "لن يتغير شيء مهما فعلت"، وهذا من الجهل، إذ أن الأنبياء أنفسهم بدأوا فرادى.
- بناء الشخصية المبادرة؛ من خلال التعليم والخطاب الإعلامي والديني الذي يعيد للأفراد ثقتهم بأنفسهم.

والنماذج التي غيرت مجرى التاريخ كثيرة؛ منها:
- محمد صلى الله عليه وسلم؛ بدأ وحده في مكة برسالة عظيمة، وسرعان ما تحوّلت إلى أمة ممتدة.
- مصعب بن عمير؛ شاب وحيد دخل المدينة قبل الهجرة، فكان سببا في دخول بيوت الأنصار إلى الإسلام.
- العلماء والمصلحون؛ فكم من رجل بدأ بفكرة أو كتاب أو كلمة، فأحدث حراكا غير وجه التاريخ! أمثال الإمام الغزالي، وابن تيمية، ومالكوم إكس...

وثمة خطوات عملية لك كفرد تستطيع اتخاذها للتغيير؛ منها:
- حدد موقعك ودورك؛ كن مصلحا في بيتك، في مسجدك، في عملك، في حيك.
- بادر دون انتظار؛ فلا تنتظر أمرا رسميا، ولا تَحبط من تثبيط المُخذّلين.
- تحالف مع المصلحين، ولو لم يبدؤوا بعد، كن أنت البادئ.
- قاوم السلبية، وازرع الثقة في قدرتك على التغيير.

لن تتغير المجتمعات بقرارات فوقية فقط؛ بل بتراكم مبادرات صغيرة، صادقة، يومية. قال الشاعر:
وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قومٍ منالٌ... إذا الإقدامُ كان لهم ركابا
فلا تنتظر التغيير من غيرك؛ بل كن أنت التغيير المنشود، وابدأ بنفسك، فأنت الأمل، وأنت البذرة، وأنت الطليعة.
ووفقك الله تعالى!
ودمت سالما!