الزي النسائي في عدن: كيف يكتب التاريخ نفسه فوق الأقمشة؟
تاريخ من التغيير بين السياسة والهوية عدن، المدينة التي ظلت دوماً شاهدة على التحولات الكبرى، لم تكن تغيراتها محصورة في شوارعها ومعالمها فقط، بل انعكست حتى على الأزياء التي ارتدتها نساؤها، حيث كان اللباس جزءًا من صراع طويل على الهوية والانتماء.
من الشيذر العدني الذي حمل طابع الأصالة والخصوصية، إلى التنوع الاشتراكي في الثمانينيات، ثم العباية السوداء التي انتشرت بعد الوحدة بفعل التيارات الإسلامية السياسية، ظلت المرأة العدنية تجد نفسها وسط موجات متلاحقة من إعادة التشكيل الاجتماعي، ليس بإرادتها، بل بفعل القوى التي حكمت المدينة.
الشيذر العدني: حضور أصيل وسط مدينة متغيرة
في أربعينيات القرن الماضي، حين كانت عدن تحت الحكم البريطاني، لم يكن التأثير الخارجي قد اخترق بعد الهوية البصرية للمرأة، حيث ظل الشيذر العدني اللباس السائد، رمزًا للخصوصية والأصالة.
كان قماش الشيذر يُحاك بخبرة، يغلف النساء بهدوء التقاليد، وكأن عدن كانت تحتضن نساءها داخل ذكريات الأمهات والجدات التي لم تتغير لقرون.
لكن كيف دخل الشيذر إلى عدن؟ لا توجد مصادر دقيقة تحدد ذلك، لكن عدن كانت مركزًا تجاريًا نشطًا، وربما لعبت العلاقات التجارية مع الهند والصين دورًا في جلبه إلى المدينة، حيث كانت الأقمشة تأتي عبر طرق التجارة البحرية، لتُنسج في ذاكرة نساء عدن كجزء من إرث ثقافي عريق.
مرحلة إحراق الشيذر: طمس الماضي بحجة الحداثة
ثم جاءت مرحلة إحراق الشيذر، لحظة مفصلية في تاريخ المرأة العدنية، حين أُزيل جزء من ذاكرتها بحجة التحديث والانفتاح.
لم يكن إحراقه مجرد إلغاء لنمط لباس، بل كان محوًا تدريجيًا للهوية الاجتماعية التي رافقت النساء لعقود.
إحدى الجدات ربما كانت تمسك بآخر قطعة من الشيذر، تحدق فيه بحزن، غير قادرة على التخلص منه، لأن رائحة الماضي كانت لا تزال عالقة بين خيوطه.
لكن المدينة كانت تتغير، والتقاليد القديمة باتت تُحاصرها توجهات جديدة، ترسم للمرأة حدودًا أخرى لما ينبغي أن تكون عليه.
الثمانينيات: التنوع في الأزياء وانفتاح الفكر الاشتراكي
مع صعود الحزب الاشتراكي اليمني إلى الحكم، انعكس الفكر الاشتراكي على الملابس التي ترتديها النساء.
أصبحت الفساتين والتنانير رمزًا للتحرر الاجتماعي، وانتقلت المرأة من لباس يغطيها بالكامل إلى خيارات أكثر مرونة وانفتاحًا، مستوحاة من الأزياء المنتشرة في مصر ودول أخرى.
كانت الفتاة العدنية تخرج بثقة، ترتدي ما يعكس حريتها الشخصية، وكأنها تقول للعالم:
"عدن تتغير.. ونحن أيضًا نتغير معها."
ما بعد الوحدة: العباية السوداء وتأثيرها على عدن والجنوب
لكن سرعان ما انقلبت الموازين بعد الوحدة اليمنية عام 1990.
صعود حزب الإصلاح وتأثير الفكر الإخواني الإسلامي جعل العباية السوداء تفرض نفسها على المشهد الثقافي، ليس كخيار، بل كواقع جديد يتشكل في المجتمع العدني.
لم تكن مجرد قطعة قماش سوداء، بل كانت ستارًا أسدل على تاريخ طويل من التنوع والانفتاح.
لم يقتصر تأثير العباية على عدن فقط، بل امتد إلى المحافظات الجنوبية، حيث أصبحت المرأة هناك تتبنى هذا اللباس تحت تأثير التيارات الاجتماعية والدينية التي توسعت نطاقها في الجنوب، حتى باتت العباية السوداء مُسجلة كهوية نسائية جديدة، مختلفة تمامًا عن تلك التي سبقتها.
ختامًا: كيف يكتب التاريخ نفسه فوق الأقمشة؟
في كل تحول سياسي، كانت المرأة العدنية تقف أمام المرآة، لا لترى نفسها، بل لترى انعكاس السلطة في زيّها.
من الشيذر العدني، إلى التنوع الاشتراكي، إلى العباية السوداء، كلها لم تكن مجرد اختيارات فردية، بل كانت صفحات من تاريخ غير مكتوب، حيث ظل اللباس هو الرسالة الصامتة لكل مرحلة عاشتها عدن.