هندسة الانحطاط

في زحمة الشعارات، وسط غبار الأزمات، يطل علينا "المنقذ"... بربطة عنقٍ أنيقة، أو بشعار دينيّ لامع، أو بحديث عاطفيّ مدروس. يتصدر الشاشات، يتكلم باسمنا، يحلم نيابة عنا، ثم يمضي بنا إلى حيث لم نختر. دون أن نسأل أنفسنا: من الذي صنعه؟ ومن الذي رسم ملامحه في خيالنا؟ وهل هو منا فعلا؛ أم علينا؟

إن أخطر ما في صناعة الانحطاط ليس الفقر، ولا الجهل! بل تسويق من يسرقنا على أنه مخلّصنا. تُعاد صياغة العقول لتستقبل "العميل" كـ"زعيم"، ويُرمَّم وجه الخيانة بطلاء الوطنية، وتُؤسَّس المنابر لتهتف باسم من يسحب الأمة إلى القاع.

قال تعالى عن هذا النموذج: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: 4]. وما أوجزها من آية، حين تكشف حقيقة مَن تراه يلمع، وهو في باطنه خنجر مسموم.

في لحظات الغفلة، حين تتراجع الهوية وتذبل اللغة وتُستبدل القيم، لا يبقى من الأمة سوى جلدها، والجلد لا يقاتل دون قلب. أُمة تنسى لسانها وتضحك على ثقافتها وتخجل من تاريخها، هي أمة تُساق طوعا نحو الهاوية، بخيوطٍ من حرير.

ما نراه من خنوعٍ ليس نتيجة ظرف طارئ؛ بل حصاد خطةٍ طويلة "هندسة الانحطاط" تبدأ من التعليم، تمر بالإعلام، وتنتهي بقدوة مزيّفة. وهكذا يُخلق جيلٌ يرى التبعية ذكاء، والجرأة على الثوابت تطورا، ويتعوّد على الحياة بلا كرامة.

ولكن ما تزال هناك نافذة؛ فنحن الجيل الذي رأى الحفرة، وعلينا أن نوقف هذا السقوط. أن نكشف الأقنعة، ونُعيد بناء العقل الجمعي. ليس بالتنظير فقط؛ بل بالتعليم الحر، والإعلام الصادق، والمواقف الواضحة.

ليس المطلوب أن نصنع ثورة صاخبة؛ بل أن نبدأ بوعي هادئ، يربّي، يكشف، يُمهّد. المطلوب أن نربي أولادنا على أن لا ينبهروا بالبهرجة، وأن يعرفوا أن الزيف قد يلبس ألف قناع، وألّا يسلموا قلوبهم لكل من "يعجبهم قوله".

في النهاية، نحن بين خيارين؛ أن نكون عبيدا في مصانع الانحطاط، أو أحرارا في مصانع الوعي. وقد وعدنا الله:

﴿وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين﴾ [الروم: 47].

لكن النصر لا يُهدى؛ بل يُنتزع بعقل، وعزم، ووعي... فلا نتأخر.

ووفقني الله وإياكم!

ودمتم سالمين!