بين خيانة الثورة واستعادة الوعي
في خضم التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية منذ عام 2011 تقف الثورة اليمنية كأحد أبرز النماذج المعقدة في مسارها ونتائجها وبينما تتجدد الدعوات الشعبية لاسيما من قِبَل النساء اللاتي يخضن اليوم مرحلة جديدة من النضال الاجتماعي والسياسي، تُطرح تساؤلات مشروعة ومقلقة في آن: ماذا جنينا من ثورة 2011؟ وهل كانت سوى حلمٍ عابر انتهى في دهاليز المصالح الإقليمية والدولية؟
الحق أن الثورة اليمنية لم تنتهِ بعد، كما يظن البعض بل ما زالت تعيش مراحلها المتقلبة وإن اتخذت أشكالاً مختلفة ، الثورة ليست لحظة انفجار فقط بل هي عملية تاريخية تمتد زمنياً وتتخللها انتكاسات وتحديات ولعل العودة إلى السؤال الجوهري "متى تُعتبر الثورة ناجحة؟" تضعنا أمام معيار لا يقبل اللبس: نجاح الثورة يُقاس بقدرة الشعب على فرض إرادته السياسية عبر انتخابات ديمقراطية شفافة تفرز قيادة وطنية تعبّر عن تطلعاته لا وكلاء لقوى خارجية ولا أدوات لسلطات الأمر الواقع.
إن من يسأل عن الفائدة من الثورة يتجاهل أن اقتلاع نظام حكم دام 33 عاماً لم يكن بالأمر الهيّن لقد سقط رأس النظام رغم دهائه السياسي وقبضته الأمنية على يد شعب أعزل لكنه امتلك الإرادة وهذه الإرادة وإن خبت تحت ركام الحرب والانقسام لا تزال كامنة في الوجدان الشعبي تنتظر لحظة صحوة جديدة، وهي لحظة بدأت تتشكل من جديد في حراك النساء وفي أصوات الشباب، وفي كل من يرفض الانكسار أمام اليأس.
الواقع الذي نعيشه اليوم ليس نتاج الثورة، بل نتيجة مباشرة لسرقتها وتفريغها من مضمونها ما نشهده من انهيارات اقتصادية، وتفكك مؤسسات الدولة واستباحة السيادة الوطنية هو نتاج لمرحلة ما بعد الثورة حيث تسللت قوى داخلية وخارجية لتسخير نتائج الثورة لمصالحها لكن هذا لا ينبغي أن يُستخدم كذريعة لجلد الذات أو التراجع عن المطالبة بالحقوق.
إن سياسة الإفقار والتجويع والتجهيل التي تمارس اليوم بحق الشعب تهدف في جوهرها، إلى قتل روح الثورة داخله ودفعه إلى الاعتقاد بأن "القادم أسوأ"، وأن "السكوت أهون من المطالبة" هي سياسة ممنهجة تُدار بعناية لإنتاج شعب منهك لا يقوى على المطالبة بحقوقه ولا يجرؤ على الحلم بدولة قانون ومؤسسات.
أما أولئك الذين يرددون أن "لا أحد يسمعنا"، فليدركوا أن الفاسد لا يُنتظر منه الإصغاء ولكن يكفي أن يدرك أن هناك من يرفضه ومن لا يعترف بشرعيته، ومن لن يسكت عن الظلم فصوت الشعب، حتى إن لم يُسمع، يخلق رهبة في قلوب الطغاة، ويزرع الارتباك في عقول المتنفذين.
ولمن يضع اللوم على أبناء تعز فليعلم أن تعز كانت أول من صرخ في وجه الاستبداد وأول من نادى برحيل النظام السابق من مدينته دون أن يُملي على المحافظات الأخرى شيئاً خرجة جميع المحافظات بإرادة ذاتية لأن الفساد كان شاملاً، والمعاناة كانت واحدة واليوم آن الأوان أن تتجدد هذه الإرادة لا من تعز وحدها بل من كل اليمن وأن تُجمع الأصوات على مطلب واحد دولة مدنية تحترم كرامة الإنسان وتكفل له حقوقه وتضع حداً لمعاناة شعب طالت غربته داخل وطنه.
إن القيادة الحالية بما تمثله من ارتزاق سياسي وغياب لأي مشروع وطني جامع ليست قدراً محتوماً والشعب القادر على إسقاط نظام كانت تدعمه دول كبرى قادر على إعادة صياغة معادلة الحكم متى ما تخلص من دوائر الإحباط، وآمن مجدداً بقدرته على التغيير.
في لحظة كهذه ما أحوجنا إلى خطاب وطني جامع يُعيد الاعتبار لفكرة الثورة ويُعيد الثقة إلى الناس بأنهم ليسوا ضحايا بل فاعلون في التاريخ حينها فقط تتحول الثورة من ذكرى إلى مشروع، ومن احتجاج إلى بناء، ومن صرخة إلى دولة.
إن الثورة ليست خيانة إذا لم تكتمل، والخيانة الحقيقية هي أن نكفّ عن الإيمان بها.