غزة الجُرح المفتوح على خارطة الضمير الإنساني؟
في وقتٍ تتساقط فيه شعارات حقوق الإنسان وتتبدل فيه الرايات،وترتجف فيه المبادئ،لتُظهر نفاق القوى العظمى
تثبت غزة المدينة المحاصرة بالحرب والمجد،المُغلّفة بالدخان والنور أنها ليست مجرد شريط ساحلي صغير،بل مقياس أخلاقي كاشف لعورة هذا العالم. في وجه القتل والحصار،في حضرة القصف والجوع،في غياب العدالة الدولية،تتقدّم غزة كمعيار للضمير الإنساني،ومختبر حقيقي للمواقف، وعنوان صريح لفرز الحق من الباطل هناك في غزة لا مجال للحياد،ولا مساحة للرمادية،بل تنطق الحقيقة بلهجة النار والدخان،وتكتب الوجوه المحاصرة روايتها بصمودٍ لا يعرف الانكسار.
من تراب"غزة"الذي تشهق فيه الأرض ألمًا،إلى زيتونها الذي يواجه الجرافات ومن حجارة أطفالها التي تناطح جبروت الاحتلال،إلى أمهات الشهداء اللواتي يزغردن وسط الجنازات،تبقى الحقيقة الأوضح والقضية الأعدل والبوصلة التي تُحدد الاتجاهات مهما تغيرت خارطة العالم والجُرح المفتوح على خارطة الضمير الإنساني والفكرة التي لا تُمحيها فوضى الأحداث والقضية التي تتجذر في الذاكرة الإنسانية،تبقى كرمز للصمود،كتاريخ لا يُنسى،وكسؤال أخلاقي لا يسقط بالتقادم.وخط فاصل بين الكرامة والانكسار، كيف لا وهي الشاهد والشهيد والأرض التي تقاوم الغياب وتثبت أن الصمود ليس فعلًا عابرًا،بل عقيدة تولد مع الطفل وتُدفن مع الشيخ.
غزة،في هذه الأوقات،هي المسألة التي يجب أن تُسأل عليها ضمائرنا،وليس القضية التي تُنساها السياسة الدولية مع مرور الزمن.فالعالم الذي يتحدث عن حقوق الإنسان يجب أن يُسائل نفسه عن حقيقة ما يجري في غزة،عن السبب الذي يجعل هذه الأرض تُقصف يومًا بعد يوم. هل يجوز أن تظل غزة مُهمشة في هذا العالم الذي يصرخ فيه الجميع من أجل الحرية والكرامة؟هل يُعقل أن تظل معاناة أهل غزة،التي مضت عقودًا طويلة،تُترك بلا حلول حقيقية؟لكن،ماذا عن العالم الذي لا يراها؟ماذا عن أولئك الذين يتجاهلون معاناتها؟هل يمكن أن نستمر في تصديق تلك الأكاذيب التي تُحاك حولها؟تلك القيم المغلوطة التي يتم تسويقها على أنها حيادية،بينما هي في الحقيقة استجابة لسياسات خبيثة تديرها القوى العالمية الكبرى؟
من هنا،يبرز سؤال مهم: لماذا يتجاهل العالم غزة؟لماذا يُفضّل البعض أن يختبئ وراء الستار،عاجزًا عن اتخاذ موقف حاسم؟لماذا يميل الكثير إلى تقبل المزاعم والكلمات الهادئة بدلًا من الحقيقة المرة التي تأتي من غزة؟من أين تأتي تلك اللامبالاة؟هل هي نتاج الخوف، أم هي نتيجة تفشي المصالح السياسية التي لا تُبالي بالقيم الإنسانية؟هل أصبحنا نعيش في عالمٍ لا يعترف بالحقوق إلا من خلال القوة والمال؟هل نعيش في زمنٍ أصبحت فيه الضمائر تُباع وتُشترى؟وأخيراً كل هذه الأسئلة لا يمكن أن تجد لها إجابة،ما لم نعرف أن غزة هي الحق.وما لم نقرّ بأننا في مواجهتها،إما أن نكون مع الحق وإما أن نكون ضده.وكل حياد في هذه المسألة هو انحياز للظلم.ولذلك،من لا يرى غزة، لا يرى الحقيقة.ومن لا ينحاز إليها،لا يُمكن أن يدّعي الحياد.
وأخيراً ومنذ أن بدأت مأساة الشعب الفلسطيني وبدأت الحروب تتوالى على غزة والمواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام وغزة بشكل خاص غير حاسمة وتتراوح بين التصريحات والبيانات الصحفية التي تثير الدهشة لتستمر معاناة الفلسطينيين وأهالي غزة ليصبح السؤال الأكثر إلحاحًا:كيف يختبر العالم إنسانيته عندما يتجاهل أفعال الاحتلال الإسرائيلي وعندما يختار الصمت بدل الفعل؟.
غزة هي الحقيقة الكاملة،تلك التي لا يمكن التشويش عليها أو تحريفها.لأنها ووببساطة،أكبر من أن تكون مجرد قضية سياسية،وأشرف من أن تُحشر في زاوية اللامبالاة ولذلك لا تقبل بأن تظل معلقة في الهواء،مجرد فكرة عابرة أو قضية يُستعمل فيها الحق والباطل كأدوات للمساومات السياسية. ولا تقبل أيضاً التجاهل، ولا ترضى الحياد، ولا تنتمي إلى هامش القضايا، بل تقف في مركز الصراع بين النور والظلام، بين الحرية والعبودية، بين الشعوب التي تناضل، وتلك التي تكتفي بالمشاهدة
غزة هي المركز،وهي الرمز،وهي العنوان. ولا يمكن لأي طرف أن يقف بعيدًا عن هذا الصراع؛إما أن تكون مع الحق،إما أن تكون مع الظلام.لن تكون في وسط الطريق،ولن تستطيع الاختباء خلف جدران الحياد.فغزة،بحجم المعاناة التي تعيشها،وبالصمود الذي تزرعه في نفوس أهلها،تفرض نفسها على العالم بأسره، بكل عنفوانها.في وقتٍ يتراجع فيه الصوت الفلسطيني عن المسامع العالمية، تظل غزة هي الصوت الأكثر وضوحًا، هو الصرخة التي لا يمكن لأي جبروت أن يخمدها.
في غزة تُمتحن المبادئ الإنسانية الحقيقية وتختبر الدول الكبرى موقفها من قضايا العدالة والحرية.هي الأرض التي تفضح صمت العالم وتقف في وجه الخذلان الذي يعيشه ملايين البشر حول العالم. هي الشهادة الحية لكل من يعتقد أن ضمير الإنسانية قد مات أو تراجع.في غزة يتضح المعنى الحقيقي للكرامة الإنسانية وكيف يمكن لهذا المعنى أن يتحقق مهما كانت الظروف.غزة هي الصوت الذي يصرخ في وجه الغدر ويقول للعالم إننا هنا،وإننا لن نُنسى مهما حاولوا طمس قضيتنا.في غزة تُمتحن إرادة شعبٍ بأسره ويُختبر مفهوم الإنسانية في أبسط صوره.فعندما تجد الأسرة نفسها لا تملك من غذاء إلا ما يكدس في أرفف صغيرة لا تسد الرمق،أو في الأوقات التي يُحرم فيها الأطفال من التعليم بسبب نقص المدارس أو تدميرها خلال الحروب تُطرح أسئلة عديدة حول معنى الإنسانية الحقيقية.لا تقتصر المعاناة في غزة على الحروب والصراعات فقط،بل تتجسد أيضًا في أزمات يومية من نقص المياه والكهرباء،أو البطالة المنتشرة بين الشباب،والأمراض التي تفشت بسبب الظروف الصحية السيئة.