جريمة بحق الأجيال: التعليم إلى الهاوية

بقلم/فضل عبدالحافظ الملا

قفْ معي برهةً على أعتاب الوطن الجريح، وتأمل حال التعليم في أرضٍ كانت منبع الحكمة، ومهد الحضارة، وأرض القلم والقرطاس.

لقد هوى التعليم، وسقط سقف العلم على رؤوس الأجيال، وما كان لذلك أن يحدث لولا أن تخلّت الدولة عن رسالتها، وغابت عن واجبها المقدّس تجاه عقل الأمة وروحها.

منذ العام 2011، توقف التوظيف في سلك التربية والتعليم، فانقطعت الدماء الجديدة عن شرايين المؤسسات التعليمية، وجفّ نبع العطاء من معلمين أفنوا أعمارهم في ميدان العلم دون تقدير أو إنصاف.

تركت الدولة المدارس تتآكل، والكادر التربوي يتساقط بين فقرٍ وقهر، ووقفت تتفرج على مستقبلٍ يُسحق تحت أقدام الإهمال. لا توظيف، لا ميزانيات، ولا رواتب، ولا مناهج، ولا أثاث، ولا حتى كرامة للمعلم الذي كان يومًا يُعدُّ رسولًا.

بل إن الدولة، في كثير من المواقف، مارست التجهيل عمدًا، فحرمت الطالب من أبسط حقوقه، وغضّت الطرف عن من يتاجر بعقله، ويستبدل المعرفة بالدعاية، والكتاب بالشعار، والقلم بالبندقية.

إن تدهور التعليم ليس حدثًا عابرًا، بل جريمة متواصلة، ضحيتها جيل بأكمله، وشعبٌ فقدَ بوصلة النهوض. فالجهل حين يُصنع، لا يُولد صدفة، بل هو مشروع هدم طويل، تباركه السياسات العرجاء، وتغذيه الحروب، وتستثمر فيه قوى لا تخشى إلا الإنسان الواعي.

فأين الدولة من واجبها؟

وأين خططها واستراتيجياتها؟

بل أين هي من القسم الذي أقسمته أن ترعى شعبها وتنهض به؟!

وإنّ من أعظم مظاهر التدهور التي يئن منها التعليم، هو ما أصاب المعلم، ذاك العمود الذي تقوم عليه المنظومة التربوية. فقد انهارت رواتب المعلمين كما انهارت العملة الوطنية، حتى بات المرتب لا يكفي قوت يوم، ولا يطفئ نار رمق، ولا يسد أدنى حاجات الإنسان الكريمة.

تآكلت الأجور في ظلّ الغلاء الفاحش، وارتفعت الأسعار حتى لامست السماء، وبقي المعلم مكبل اليدين، يذهب إلى مدرسته وفي قلبه حسرة، وفي عينيه دمعة، لا لشيء سوى لأنه آمن أن رسالته أكبر من المال، وأن بناء العقول أولى من بناء الجدران.

فأي علم يُرجى من جائع؟

وأي أداء يُنتظر من معلم لا يملك حق المواصلات، ولا دواء أولاده، ولا قوت أُسرته؟!

إن المعلم إذا ما أُهين وجاع، أُهين معه التعليم، وسقطت معه هيبة المدرسة، وتلاشت في النفوس قيمة الكلمة والمعرفة.

فكيف يُطلب من المعلّم أن يعطي، وهو المحروم؟

وكيف يُنتظر منه أن يُضيء العقول، وهو يكتوي بنار الحاجة؟!

وكأن ما سبق لا يكفي، حتى جاءت الطامة الكبرى في العام الدراسي الماضي، حيث توقفت المدارس في الفصل الثاني بسبب إضراب المعلمين، إضرابٌ لم يكن من فراغ، بل كان صرخة من قلب المعاناة، ونداءً أخيرًا من جسدٍ أنهكته قسوة الإهمال، ولم يجد من يسمعه.

ورغم توقف التعليم لفصل كامل، لم تحرك وزارة التربية والتعليم ساكنًا، لم تسعَ لحلّ، ولم تفتح بابًا للحوار، وكأن مصير آلاف الطلاب لا يعنيها، وكأن ضياع فصل دراسي كامل مسألة لا تستحق الوقوف عندها.

لكن المفارقة المؤلمة، أنه عندما اقتربت الامتحانات الوزارية، تحرّكت الوزارة فجأة، فأعدّت اللجان، وشكلت المراكز، ورصدت المخصصات، وأعلنت الجداول، وكأن العام كان منتظمًا، وكأن الطلاب لم يُحرموا من التعليم لشهور.

فأي عدالة هذه؟

وأي منطق يُجيز أن يُمتحن طالب في ما لم يتلقَّ؟!

أليس من الجور أن يُساق أبناؤنا إلى قاعات الامتحان، وهم لا يملكون أدوات المعرفة، ولا حظّ لهم من المقررات إلا العناوين؟!

وأخيرًا...

لن تقوم للأمم قائمة ما لم ترفع راية التعليم عاليًا، ولن ينهض الجنوب إلا إذا عادت المدرسة محرابًا، وعاد المعلم سيدًا، وعاد الطالب جوهرة تُصان وتُصقل بالعلم والمعرفة.

فيا كلّ من بيده القرار:

اتقوا الله في هذا الشعب، وعودوا للتعليم، فهو الحياة، وهو النور، وهو خلاصنا من هذا الليل الطويل المظلم.