وترجل فارس الدعوة....

بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي 

نعم ترجل فارس الدعوة( الأستاذ عبدالله علي  مشدود )  عن صهوة جواده ، بعد أن امتطاه لعدة عقود من الزمن .
ترجل بعد أن صال وجال في ميادين التربية ، والتعليم ، والإرشاد ، والنصح، والتوجيه ، والتبليغ ، ومحاضن القرآن الكريم ، ومنابر المساجد ، ودور العلم .

ترجل ليترك فراغاً لن يسده أحد بعده وإن اجتهد في ذلك .
ترجل لتفتقد محافظة أبين علماً من أعلامها ، وكادراً تربوياً فذاً من كوادرها ، وقائداً فريداً من 
قادتها ، ورجلاً عز نظيره من رجالها .

لقد كان الأستاذ عبدالله مشدود رجلاً استثنائياً في  وقتنا الحاضر ...
بل كان يعيش خارج عصرنا الملبد بغيوم المصالح ، والمتناقضات .

عرفته منذ متصف ثمانينات القرن الماضي عندما كان يعلمنا اللغة العربية بثانوية جواس..
وكان له الفضل باندفاعي نحو اللغة ، وعشقها ، وتعلمها.
حصل معي موقف بسيط وأنا أدرس سنة ثاني ثانوي ، وذلك عندما قدمت له دفتري ليطلع عليه ،  فلفت نظره غلاف الدفتر حيث كتبت عليه ( دفتر اللغة العربية) فعملت همزة القطع على  الألف ( أللغة ) وهي موصولة .

فأعاد الدفتر إلي وقال : صحح العبارة .
نظرت إليه متعجباً فقلت له : إنها همزة يا استاذ على الألف ، ابتسم ابتسامة عريضة......
 أحسنت ببردها  على قلبي - بل لا أبالغ إن قلت : إنني أجد بردها حتى الساعة - ولم أنسها لأكثر من أربعين عاماً ثم قال لي :إنها همزة  وصل يا بني .
من حينها اشتعلت الحماسة في قلبي لدراسة اللغة العربية، وعلومها .

فبينما تعلق قلبي باستاذي الذي أحببته ، والذي أنظر إليه كأستاذ مختلف عن بقية المعلمين ...
لأني وجدت فيه ما يشبع حاجات تعتلج في صدري ، وإجابات لإسئلة دائما تخطر على بالي .

فجأة اختفى معلمي وانطفأ النور الذي  استمده منه ..
سألت عن سبب غيابه فكانت الكارثة ....
لقد هرب من المديرية إلى المحافظات الشمالية خوفأ من بطش الرفاق الذين هددوا حياته ، وتعرضوا له لأكثر من مرة .

مرت الأيام واكملت الثانوية ، والتحقت بكلية التربية لغة عربية ، وتوظفت معلماً .
وشاء الله أن يعود معلمي بعد قيام الوحدة الى مودية ، والتقيت معه ، وزرته للبيت ، واستعرت منه عدة كتب في الأدب والشعر والنحو ، وعلوم الدين .

ولكن هذه المرة ارتبطت به روحياً ، وفكرياً ، وثقافياً ، ووجدانياً ، وعاطفياً ..شعرت بأنه جزء من كياني.

لقد كان مصدر إلهام ، وينبوع رقراق يتدفق يروي ظمأ روحي ، ومنهل عذب اغترف منه غذاء خلقي ، وسلوكي ، وفكري ، ومنهجي .

لم يكن عبدالله مشدود ( أستاذاً ) وحسب ..
بل كان مدرسة نموذجية مكتملة ..
كان مدرسة في كل جوانب الحياة ( وبإمتياز ) .
جسَّد أخلاق المسلم التقي ، وترجم ترجمة عملية سلوك المؤمن النقي ، وبلور بلورة واقعية فكر العالم السوي ....
فكان آية في الورع والتقوى ، وآية في الصدق ، وآية في المعاملة ، وآية في العلم ، وآية في السلوك ، وآية في الانضباط ودقة المواعيد .

لا يختلف اثنان ممن عرفوه أنَّه فريد عصره ، ووحيد دهره ..
رجل حيثما وجهته وجدته أهلاً لذاك..
منذ عرفته لأكثر من أربعين عاماً وهو رجل صوَّام ، قوَّام ، ملازم الصف الأول في المسجد ، معتكف بين مغرب وعشاء إما تالياً للقرآن ، أو معلماً لعلوم الدين .

وأما إذا ذكرت العلوم ...فهو بحر بلا منازع...
لا يبارى ، ولا يٌجارى في علوم اللغة ،والنحو ، والأدب والبلاغة ، والشعر .
وإذا سألت عن علوم الشريعة....فهو الففيه الجهبذ ، والعالم الوسطي ، والشيخ المتزن  ، والمربي  الورع التقي .

ذات يوم كنا في سفر إلى صنعاء ، وأثناء العودة إلى مودية كان طريقنا ( مأرب ، شبوة ) انطلق الباص من صنعاء وكان في الباص أساتذة من العيار الثقيل ، نهض المربي الفاضل فقال : نريد أن  نستغل  الوقت ونستفيد منه _ وهذا كان دأبه في كل أسفاره - سنعمل برنامجاً ثقافياً ..
فاقترح أن يذكر كل واحد منا اسم صحابي يبدأ بالأحرف الهجائية ، ويعطي نبذة مختصرة عن حياته ...
فابتدأ بحرف ( الألف ) وذكر أحد الصحابة ابتدأ أسمه بحرف الألف ، وأعطى نبذة كافية شافية عن حياته ...

حاول البعض وذكروا عدة أسماء ..
ثم انتقل إلى حرف ( الباء ) وهكذا حتى اكمل الحروف الهجائية ، ومع كل حرف يسرد قصة وسيرة ذلك الصحابي ...
حاول بعض المسافرين مجاراته فكانوا يتساقطون في الطريق الواحد تلو الآخر ، أما هو فعبر بسفينته البحر بكل اقتدار .

ثم انتقل إلى الشعر ...
فابتدأ ببيت شعري ، وطلب من الجميع اكمال البيت بآخر حرف..
حاول معه المسافرون ليجاروه.... فنفدت بضاعتهم ، وكملت ذخيرتهم ، وأما هو فظل ممتطي جواده يصول به ويجول حتى نام الغالبية
 وأما هو فلم تكتحل عيناه بالنوم حتى وصل مأرب ، وهو يتنقل في بساتين المعرفة، وحدائق العلم ، وواحته الغناء ، يجود علينا بما فتح الله عليه .

من أجمل الصفات التي تعلمتها منه ولا زلت أحوال الحفاظ عليها - رغم مرارة الواقع ، وسوء أخلاق الكثيرين - هو سلوك الانضباط في المواعيد .
لم أعرف أحداً ممن عاشرتهم خلال مسيرة حياتي يجسد هذا السلوك بدرجة ( مائة في المائة ) إلا الأستاذ عبدالله مشدود .

وكم كان يغضب عندما يحدد موعداً ولم يلتزم به من وعده .
تعلمت منه درساً واحداً ، فقررت التحلي بهذا السلوك قد الاستطاعة .

ذات يوم طلبت منه أن أزوره للبيت...فحدد لي الموعد - ونتيجة الفوضى الذي ورثناها من المواعيد - أتيت متأخراً بعض الوقت. 

طرقت الباب فخرج علي وقال : خيراً .
قلت جئت بحسب الموعد ، قال : كم الوقت الآن ؟ قلت الساعة كذا وكذا .
اعتذر بكل أدب عن استقبالي ، وأغلق الباب بهدوء .
أما أنا ..فتسمرت مكاني قليلاً ، ثم أطرقت وجهي نحو الأرض ، ولملمت خيبتي ،وعدت أدراجي ، رغم شغفي بزيارة شيخي ، وأستاذي .

وبينما غادرت منزل الشيخ عبدالله كنت أتحدث مع نفسي عن خيبتي ... 
لكنني تعلمت درساً عملياً
عن أهمية احترام المواعيد لأنها قيمة إسلامية تنم عن صدق المسلم ، ومدى تقديره للوقت ، واحترامه للآخرين .

ويذكر لي أحد الشباب من مديرية الوضيع أنهم طلبوا زيارة الأستاذ عبدالله إلى منزله ، فحدد لهم الموعد ، لكنهم وصلوا متأخرين .

قرعوا الباب ، ففتح لهم وقال : خيراً .
قالوا جئنا بحسب الموعد ، قال كم الوقت الآن ..
نظر بعضهم إلى بعض وصمت الجميع ، فاعتذر لهم عن الدخول ، وأغلق الباب...

لكن هذه المرة لم تطل فترة إغلاق الباب لأنه استشعر أنَّ الشباب قد أتوا من مكان بعيد ، فأعاد فتح الباب ، وأذن لهم بالدخول ، وعاتبهم
عتاباً جميلاً عن عدم انضباطهم بالموعد .


وهذه الصفة للأسف أصبحت نادرة اليوم حتى فيمن هم محسوبون دعاة ، وطلبة علم ..

ومما يحز في النفس أنَّني إلى هذه اللحظة لم أجد شخصاً واحداً يتميز بهذه الصفة بدرجة عالية من الانضباط على الإطلاق !!!
حتى أصبح كلام العامة حينما تحدد له موعداً يقول لك : أريد وعداً إنجليزياً خاصة أولئك الذين تعاملوا مع الإنجليز، ونقلوا لنا هذه الثقافة 
فتشبعنا بها ،وهذه كارثة للأسف .

أثناء تدشين قانون المعلم - وكان حينها مديرأ لمكتب التربية مودية - عرض عليه أحد السماسرة أن يسلم له وثائقه وسوف يستخرج له درجة متقدمة في السلم الوظفي ، فأبى ذلك بشدة ..
وظل في سلمه الوظيفي رغم استحقاقه برفع درجته .

هذه خواطر بسيطة جدا أحببت أن أكتبها في لحظة قاسية على قلبي ..... ربما تسعفنا الأيام لكتابة مآثره
في وقت لاحق .

لقد رحل الأستاذ عبدالله بعد معاناة مريرة مع المرض الذي رغم قساوته ...إلا أنه كان صابراً ، محتسباً .
لم تنل قناته- مع شدة مرضه - في النصح ، والإرشاد ، والقراءة ، والإطلاع ، والعبادة.

رحم الله شيخنا الفاضل رحمة الأبرار 
وأسكنه فسيح الجنان.
خالص العزاء والمواساة للشيخ محمد  مشدود وكيل وزارة الأوقاف ، وكافة إخوانه .

إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.