درع المؤمن الواقي
يعيش كثير من الناس تحت ظلال فهمٍ مغلوطٍ لمفهوم "القضاء والقدر"؛ حتى غدت بعض العقول تستسلم للواقع المرير، وتتقوقع خلف حُجّة "هذا قدري" وكأنها كلمة مقدّسة تُغلق بها كل أبواب السعي، والدعاء، والعمل؛ بل وحتى الأمل!
لكن هل هذا هو الإيمان الصحيح بالقدر؟ وهل حقّا لا يمكن ردّ القضاء؟ وهل يسلُبنا القدرُ إرادتنا وطاقتنا وخياراتنا؟
والجواب باختصار: كلا؛ بل هناك قضاء يُردّ، وهناك أقدار تُبدّل، إذا عرفنا مفاتيح الرحمة، وأسباب الدفع، وطرق النجاة.
لقد فرّق علماء الإسلام بين نوعين من القضاء:
- قضاء مُبرَم: لا يتغير ولا يتبدّل؛ كأجل الإنسان، وخروج الروح، وبعض البلاءات الكبرى.
- وقضاء مُعلّق: يرتبط بأسباب، فإذا دعا العبد، أو تصدّق، أو استغفر، أو وصل رحمَه، أو أطاع ربَّه؛ رفعه الله عنه، وإن قصّر أو غفل؛ نزل به؛ ولذلك يقول تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ ففي أمّ الكتاب، الأصل الثابت، لا يخفى على الله شيء؛ لكنه سبحانه جعل محو بعض الأقدار وإثبات بعضها، متعلقا بأعمال الناس. وقد جاء في الحديث: «إن الرجل ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه»؛ فذنبٌ صغير، قد يحجب عنك فرجا كبيرا، وعمل صغير قد يفتح لك أبوابا من الخير ما كنت تحلم بها.
ودونكم بعض المفاتيح العملية التي دلّت عليها النصوص، وأثبتت التجربة أثرها العميق:
- الدعاء؛ قال ﷺ: «لا يردّ القضاء إلا الدعاء»؛ فكم من بلاء كان في السماء فنزل الدعاء فرفعه.
- الصدقة؛ فـ «الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء».
- الاستغفار؛ قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا﴾؛ جاء عن الحسن البصري أنه كان يجعل الاستغفار دواءً لكل داء.
- بر الوالدين وصلة الرحم، وفي الحديث: «من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه».
- العمل الصالح عموما؛ فالطاعة جالبة للبركة، مانعة للأذى، دافعة للشرور.
والاستسلام السلبي ليس إيمانا؛ بل الإيمان أن ترضى بقضاء الله بعد وقوعه! لكن لا تسلّم له قبل أن تُجاهد بالأسباب! قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حينما قيل له: "أتفر من قدر الله؟"، فقال كلمته الخالدة: "نفرُّ من قضاء الله إلى قضاء الله"؛ أي أننا نتحرك في ظل مشيئة الله، ونسعى بالأسباب، لأن الله أمر بذلك، وقَدَر الأسباب والنتائج.
وفي وجه الأقدار المؤلمة؛ لا يصمد إلا من تربّى على التزكية، وتشرّب حسن الظن بالله، وتعلّم الصبر، وتذوّق حلاوة الرضا. ومن عرف الله في الرخاء؛ عرفه الله في الشدة. ومن سلّم قلبه لله؛ سلّمه الله من وجع القضاء؛ قال ﷺ: «تعرّف إلى الله في الرخاء؛ يعرفك في الشدة»؛ فليكن لك في كل لحظة رخاء دعاء، وفي كل سعة طاعة، وفي كل هدوء شكر، فإن الأقدار تأتي فجأة، ولا يُثبت فيها إلا الصادقون.
أخيرا؛ البلاء لا يدوم، والليل لا يطول، والله لا يُضيع من لجأ إليه؛ فكن ممن يعرف طريق السماء، ويفتح الأبواب بالدعاء، ويدفع البلاء بالصبر والتوكل والعمل.
وافعلْ ما عليك، وثقْ بما عند الله، واصنع من إيمانك درعا تردّ به القضاء قبل أن يقع.
وفق الله الجميع!
وسلمهم من كل مكروه!