تعز بحاجة إلى استعادة وعيها بالمشكلة الحقيقية.

تطفو أزمة المياه التي تعيشها مدينة تعز لتبدو واحدة من المشكلات الخطيرة التي تواجه المدينة المنكوبة بالحرب والحصار.

ومع كل أزمة تحدث هناك تقفز إلى الإمام محاولات متكررة لإعادة تشكيل وعي الشارع وتوجيه سخطه بعيدا عن الجذور الحقيقية للمشكلة.

من المعروف أن تعز تعاني  من أزمة مياه خانقة أسبابها متشابكة؛ فالمصادر الطبيعية شحيحة أصلا، والمياه القادمة من الضباب سطحية لا تدوم إلا مع موسم الأمطار، فيما لا تزال مليشيا الحوثيين تفرض سيطرتها على أهم الآبار وتمنع وصول المياه إلى ملايين المدنيين.

يرافق هذه الحالة فشل إداري واضح في إدارة ما تبقى من الموارد المائية، مما زاد من تعقيد الأزمة.

ومع ذلك وبينما تقف المدينة على حافة العطش، يتصاعد خطاب دعائي يستثمر وجع الناس، محاولا إلقاء اللوم على القوى الوطنية والمكونات التي لا تزال تتواجد في الميدان، وفي مقدمتها تلك المنخرطة في ثورة 11 فبراير، متناسية العوامل الحقيقية للجريمة اليومية المستمرة.

يتعمد البعض تجاهل الحقيقة الجوهرية التي تشير إلى أن كل هذه الأزمات بما فيها أزمة المياه، هي إحدى النتائج المباشرة لانقلاب الحوثيين الذي نسف الدولة ومؤسساتها، وصادر طموحات اليمنيين في بناء دولة مدنية ديمقراطية.

إن قفز البعض على المقدمات الحقيقية، ومحاولاتهم تقديم النظام السابق في صورة "المنقذ" بعد أن خرج عليه الشعب في 2011، ليست سوى عملية منظمة لإعادة تدوير الوعي وتمييع الذاكرة الشعبية، عبر سردية مقلوبة تبدأ من منتصف الطريق، وتتجاهل أن ثورة فبراير كانت ثورة سلمية انتهت بحوار وطني شامل وحكومة وفاق حافظت على العملة ووظفت عشرات الآلاف من الشباب، وكانت تتهيأ لوضع دستور جديد والاستفتاء عليه.

إن المأساة الأشد مرارة اليوم أن الشارع الثائر الذي حلم بوطن مختلف، يُعاقب على حلمه وتُفرض عليه الأزمات، وتُوجه له الاتهامات، وتُصادر ذاكرته، ويُجبر على تصديق أن من أشعلوا الانقلاب هم من يحملون الآن الحلول.

ومن أكثر الكوارث فداحة أن يتحول مشعلو النار إلى حمائم سلام مزيفين، يتقمصون دور المنقذ بينما هم من فجروا البلد وساهموا في مآسيه، فيما يُترك الشعب ليتخبط في تفسير أوجاعه، دون أن يمتلك ذاكرة قوية تذكره بمن بدأ الجريمة.

إن أخطر ما تواجهه تعز ليس فقط الحصار أو الجوع أو العطش، بل تلك المحاولات المنظمة لاغتيال الوعي الشعبي، وسرقة الذاكرة الجمعية، وتحويل الضحية إلى متهم، وهذا ما يجعل معركتنا الأخطر اليوم ليست مع الرصاص فقط، وإنما أيضا مع الأكاذيب وتزييف الحقائق وتخدير العقول.

إن الذاكرة الشعبية هي الحصن الأخير لأي شعب يريد البقاء، وإذا ما تم انتزاعها أو تزييفها فلن يكون من الصعب تحويل الجماهير إلى مجرد أدوات تائهة، يتحركون وفق ما يُبث في وعيهم الممسوخ والمغسول والموجه بعناية.

على أننا نؤكد أنه ما يزال هناك ما يمكن فعله وهو التماسك المجتمعي، وتكاتف القوى السياسية، والضغط على السلطات المحلية لتحسين الأداء، وتمكين الإدارة المحلية من معالجة الأزمات بجدية وهي كلها أدوات واقعية للخروج من هذا النفق.

لكن ذلك لا يكفي وحده؛ إذ يجب أن نحافظ على وعينا الجمعي، ونرفض محاولات العبث بتاريخنا وطمس ذاكرتنا، فبدون وعي لا يمكن البناء، وبلا وجود ذاكرة قوية لن نستطيع النهوض أبدا.

إن من يظن أن الشعب سيقبل أن يُعاد إنتاج قاتليه في صورة ملائكة، يرتكب جريمة أخلاقية وسياسية، ستكون كلفتها باهظة على المدى البعيد.

تعز اليوم لا تحتاج إلى جلد الذات أو معارك عبثية بقدر ما هي بحاجة إلى استعادة وعيها بالمشكلة الحقيقية،  وهي أن هناك انقلابا على الدولة، ومشروع لا يزال يحاصرها ويمنع عنها الحياة.. وكل ما عدا ذلك، محاولات لإعادة رسم المشهد بأدوات التضليل وخداع الشعوب.

ولأن الذاكرة الحية هي أول خطوط الصمود، فإن الحفاظ عليها هو التحدي الأخطر، وهو ما يجب أن ننتصر فيه أولا، كشرط للانتصار على ما سواه.